صبي مراسيل حتى وأنا معلم

[JUSTIFY]
صبي مراسيل حتى وأنا معلم

عندما التحقت بهيئة التدريس في مدرسة سنار الثانوية، كنت أصغر المعلمين سنا، وبالتالي كان يتم تكليفي بـ «المراسيل»، فإذا استوجب أمر مراجعة جهة حكومية أو أهلية داخل المدينة: يا أستاذ جعفر امشي إلى كذا وكذا، لإنجاز كذا وكذا، وبالطبع كانت هناك سيارة تحت تصرف إدارة المدرسة وهيئة التدريس، وحدث أكثر من مرة أن أرسلوني إلى الخرطوم في مهام رسمية أو نقابية، وفي ذات شهر قرر اتحاد المعلمين فرع سنار، إقامة حفل غنائي لتعزيز ميزانية الاتحاد، وتم الاتفاق مع المطرب محمد ميرغني لإحياء الحفل، وبحكم أنه معلم فقد قبل بتقاضي 20 جنيها فقط، وأعطوني المبلغ وقالوا لي: توكل على الله، وتوكلت على الله وركبت شاحنة محملة بجوالات من الذرة والقمح والسمسم، واتخذت مكاني مع آخرين فوق تلك الجوالات. ونحن نشق حقول ووحول مشروع الجزيرة الزراعي، ظلت الشاحنة تتمايل يمنة ويسرة، وفجأة انغرز جانبها الأيمن في حفرة ممتلئة بالماء والطين، ووجدت نفسي ومن معي نهوي أرضا، ولأن الشاحنة كانت تسير ببطء شديد، ولأن الانغراز في الطين، شل حركتها تماما، فقد خرجنا من السقطة بدون إصابات، ومن لطف الله بنا أنه لم يسقط اي جوال وإلا لكان بعضنا من الهالكين. ونظرت إلى هيئتي والطين يغطي معظم ملابسي وأعضاء جسمي وأحسست بأنني شخصية في فيلم كرتون، ولحسن حظي كنت أحمل حقيبة يد صغيرة بها ملابس «خرطومية»، وتوجهت وضحايا السقطة إلى ترعة ومارسنا العوم في فرح طفولي، وأزلنا الطين من ملابسنا ثم ارتديناها وهي مبتلة، وصعدنا إلى الشاحنة مجددا وقبل وصولنا الخرطوم بنحو ساعة كانت ملابسنا قد جفت.. باختصار وصلت إلى منزل الأستاذ المطرب محمد ميرغني في حي الختمية في الخرطوم بحري، بعد أن عدلت هيئتي وغيرت ملابسي وسلمته المبلغ الذي معي.
والشاهد هو أن الثقافة الاجتماعية السودانية تقضي بأن يخدم الصغير الكبير، بمعنى أن يلبي الصغير أوامر من هم أكبر منه حتى لو لم يكن يعرفونه وطالما الأمر في حدود المعقول، وأذكر أنني وفي كل عطلة صيفية أقضيها في مدينة كوستي، منذ السنة الاولى في المدرسة الثانوية وحتى السنة النهائية في الجامعة، كنت كل صباح أمر على نحو ستة بيوت لتسلم التعليمات والنقود لشراء ما يلزم من خضروات ولحم، ولم تكن تربطني بأهل ثلاثة من تلك البيوت قرابة دم أو نسب، ولكن تربيتنا كانت تقضي بأن الجيران أهل، وكنت كل صباح وفي وقت معلوم ألاقي ثلاثة من الطلاب كانوا يقومون بنفس المهام يوميا، فنتجول سويا نشتري اللحم والخضار، وكان اللحم يباع بوحدة تسمى «الوقّة»، والسكر والشاي والملح بالرطل والوقية، ولكن لم يكن هناك أي معيار أو مقياس أو مكيال لبيع الخضار: يا عمي عايز ملوخية بقرشين وجرجير بقرش وبندورة (ننطقها في السودان بنضورة، وكنا نسمي الباذنجان طماطم أسود والبندورة طماطم أحمر) ويناولك الخضرجي كمية منها وأنت وحظك.
قبل سنتين كنت في الخرطوم في سيارة صديق عندما لفت نظري ولدان بالزي المدرسي يجلسان تحت شجرة في جانب شارع عام، ويدخنان فطلبت من صديقي أن يوقف السيارة ففعل، وتوجهت نحوهما: شنو دا يا أولاد تشربوا سجائر وهاربين من المدرسة؟ فرد أحدهما: وسيادتك أبونا وللا مدير المدرسة؟ فأمسكني صديقي من تلابيبي وزج بي داخل السيارة، وظلت الحسرة تلازمني على «أخلاق عيال آخر الزمن»، حتى كان يوم قدومي إلى الخرطوم في أغسطس من العام الماضي (2013) لتلقي العزاء في والدة زوجتي، وكانت الأمطار الغزيرة قد شكلت بحيرة أمام بيتي، وانغرزت في الطين عدة سيارات للمعزين، وشاهدت شباب الحي يأتون بجريد النخيل وقطع الكرتون والحجارة الصغيرة حتى فتحوا ممرا آمنا لسيارات المعزين، وأدركت عندها أن شباب آخر الزمن السودانيين بخير وأنه لا يجوز الحكم على الكل بأخطاء البعض.
[/JUSTIFY]

جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]

Exit mobile version