أقرت نيفاشا الانفصال حقاً من ضمن بنودها وأتاحت للجنوبيين أمكانية اختياره لكنها- أي الاتفاقية- وبشهادة العالم أجمع راعت إيمان طرفيها بأهمية الوحدة مما جعلها تمثل عهداً مضمراً بين الشريكين للعمل على جعل خيار الوحدة جاذباً. ووضعت اتفاقية السلام مسؤولية تنفيذها وانزالها على أرض الواقع على كاهل الشريكين، ففيما تلزم الاتفاقية المؤتمر الوطني بضرورة انفاذ بنودها كاملة وفقاً لجدولها الزمني تلزم الحركة بخلق اجواء من الود بينها وبين المؤتمر الوطني باعتبارها الشريك الأصغر في الاتفاقية.
حق الانفصال من أهم بنود اتفاقيّة السلام الشامل، ولعلّه كان من أهم الأسباب التي ساعدت على التوصل إلى هذا الاتفاق، ولكن يجب أن لا نقرأ هذا البند نصاً بل الروح في هذا النص التي أشارت بوضوح إلى أن الموقِّعين على هذا الاتفاق – بشهادة العالم كله – يؤمنون بالوحدة ويطالبون بجعلها جاذبة كخيار مفضّل على الانفصال، ودعت الطرفيْن لجعلها كذلك، وهذه الصفة «جاذبة» تقع مسؤوليّة تحقيقها على الطرفين على مستوييْن:
الأوّل: إنفاذ بنودها كاملة في فترات زمنيّة محددة
الثاني: خلق واستدامه الأجواء الوديّة لشريكين اثنيْن فقط في مشروع مصيري للسودان.
المستوى الأوّل وبكل الصدق هو مسؤوليّة حزب المؤتمر الوطني لأنّه الشريك الأقوى والحاكم.
المستوى الثاني وبكل الصدق أيضاً هو مسؤوليّة الحركة الشعبيّة، والتداخل المنطقي بين المستوييْن واضح، إذ لا يمكن تنفيذ بنود الاتفاقيّة وتفاصيلها الشائكة إلا بتهيئة المناخ السوي ونسيان كل الماضي بكل ما كان فيه من مرارات، أحقاد، واقتتال .. والشريكان وصلا إلى هذه المرحلة من الاتفاق الدولي ومعترف بهما كممثليْن أوحدين لأهل السودان. وقد وصلا إلى هذا التمثيل وكلاهما له معارضة داخليّة، إذن كان من المفترض أن تكون هنالك مساحات مشتركة وخطوط حمراء لا يتم تجاوزها.
الحركة الشعبيّة لم تقم بهذا الدور لخلق أرضيّة من الثقة وروح الشراكة حتى تسمح للمؤتمر الوطني بإنفاذ بنود الاتفاقيّة.
بدأ التشكيك في النوايا بخلفيّة الماضي بعد أيّام قليلة من التوقيع وتحديداً بعد رحيل الزعيم جون قرنق في حادث الطائرة المؤسف، ليبدو مما يحدث الآن أنّه القائد الوحيد الذي كان يؤمن بضرورة استمرار السودان موحّداً بقناعات ثابتة زادت عند وصوله الخرطوم ومشاهدته للجموع التي استقبلته، فهو قائد مفكر ثاقب النظرة المستقبليّة، كثير الطموح. استمرّت الأزمات بين الحركة والمؤتمر الوطني دون توقُّف وبوتائر منتظمة في كل صغيرة وكبيرة في منابر متعدِّدة ومواقف متباينة لقادة الحركة تحت مظلة التهديد بالانفصال حتى لو كان من داخل برلمان الجنوب، وفي هذا خروج خطير عن اتفاق السلام الشامل، مجرّد التفكير فيه والبوح به علناً يجعل الاتفاق حبراً على ورق وغير جدير بالاحترام والالتزام، وهذا فيه كل المنطق لتوجُّس وخيفة المؤتمر الوطني من المضي فيه بنفس قوة الدفع التي بدأت والروح الطيِّبة التي سادت عقب التوقيع.
بعد هذا المقدمة دعنا نحلل مآلات الانفصال سلباً وإيجاباً على كل من الشمال والجنوب في موضوعيّة مستمدّة من معلومات حيويّة موثوقة عن دول الجوار للشمال والجنوب، وذلك حسب الجدول المرفق مع هذا المقال:
(أ) تحليل جدول دول الجوار للجنوب
«1» السكان
مجموع عدد السكان في الدول المجاورة لجنوب السودان يبلغ 228 مليون باعتبار أن سكان اثيوبيا (82) مليون مقسمين بين جنوب السودان وشمال السودان بنسبة (42) مليون مع حدود الجنوب و(40) مليون مع حدود الشمال.
حسب تصنيف تقارير وكالة المخابرات الأمريكيّة فعدد السكان تحت خط الفقر كالآتي:
كينيا 55% أي حوالي 20 مليون
يوغندا 35% أي حوالي 12 مليون
اثيوبيا 40% أي حوالي 30 مليون
الكنغو 50 % أي حوالي 34 مليون
افريقيا الوسطى 50% أي حوالي مليونين
المجموع = 89 مليون
تعداد سكان الجنوب في الشمال والجنوب لا يتعدى (10) ملايين، عليه يكون الجنوب مهدّداً بهجرة سكانيّة من دول الجوار في الظروف العاديّة وعندما تُواجه هذه الشعوب بالحروب والمجاعات والأمراض والصراعات المسلحة، وهي أمور كلّها واردة بدرجة عالية جداً وتكون الهجرة أعنف وأكثر.
وقد يقول قائل إن هذه الهجرة واردة في حالة الوحدة أيضاً. لكن الرد على ذلك هو نظرية الضغط Pressure والقوّة Force الضغط يساوي القوّة مقسومة على المساحة، لذلك في حالة الانفصال قوّة الهجرة ثابتة لكن المساحة تقلّصت إلى الثلث، لذلك يكون الضغط على الجنوب عنيفاً ومؤثراً.
خير دليل على هذه الهجرة إلى الجنوب هو ما حدث في السودان عندما اشتدّت الحرب في الجنوب .. هاجر الملايين من سكان الجنوب إلى الشمال حتى وصلوا دنقلا وحلفا، ولم يهاجروا إلى الدول المجاورة لجنوب السودان.
(2) المساحة الزراعيّة
مجموع المساحات الزراعيّة في الدول المجاورة للجنوب يساوي 85 مليون فدان، بينما في السودان المساحات الزراعيّة تبلغ 200 مليون فدان والمزروع منها فعليّاً 44 مليون فدان، نصيب جنوب السودان من هذه الـ 200 مليون فدان لا يتعدي خمسة ملايين فدان.
العالم مواجه بأزمة كبيرة في الغذاء في العشر سنوات القادمة بسبب الانفجار السكاني وتغييرات المناخ، وهذا هو سبب تدافع المستثمرين والدول الأجنبيّة للشراء الإيجاري والاستثمار في الزراعة في شمال السودان.
(3) البترول
كل احتياطي البترول المؤكد في دول الجوار للجنوب يبلغ حوالي (181) مليون برميل في الكنغو واثيوبيا، وبقية الدول لا احتياطي لديها. في السودان يبلغ الاحتياطي المؤكد خمسة بلايين برميل في الشمال والجنوب، وهذا بدوره بذرة لمشاكل عميقة في حال انفصال الجنوب نسبة لأن حدود البترول الجوفيّة تختلف كثيراً عن حدوده السطحية ، وكذلك ما تمّ صرفه من الشمال على اكتشاف البترول وإخراجه الى السطح مشكلة أخرى، والمشكلة الثالثة والأهم أنابيب البترول الممتدة حتى بورتسودان وإمكانيّة إنشاء أنابيب جديدة من شمال الجنوب إلى ممبسا، وهي الميناء الوحيد المتاح لجنوب السودان لاستخدامه في الصادرات والواردات، وهذا يتطلّب مليارات الدولارات وعشرات السنين ليصبح في مستوى الخطوط الحاليّة لنقل البترول.
(4) السواحل والموانئ والحدود المشتركة
ثلاث من دول الجوار لجنوب السودان ليست لديها سواحل أو موانئ وهي يوغندا، اثيوبيا وأفريقيا الوسطى. والكنغو بها ساحل لا يُذكر يبلغ (37) كلم فقط. كينيا فقط بها ساحل طوله (536) فيه ميناء ممبسا وهو المنفذ الوحيد لهذه الدول الأربع إضافة إلى تنزانيا، رواندا وبورندي، إلا أنّه مُستغل لأقصى طاقاته ويعاني من تكدُّس البضائع وبطء في إجراءات الصادر والوارد. ساحل السودان يبلغ (835) كلم وبه أكثر من ميناء يمكن زيادتها، وهذا الساحل مدعوم بشبكة طرق بريّة حديثة وقديمة وخطوط أنابيب بترول من عمق السودان بلغ الصرف عليها عشرات المليارات من الدولارات وعشرات السنين من الإنشاءات.
أطول حدود مشتركة مع الجنوب ستكون مع شمال السودان عند خط العرض 22 – 10 شمالا بطول (1073) كلم بينما تبلغ مع كينيا (232) كلم، يوغندا (430) كلم، اثيوبيا (940) كلم، الكنغو (628) كلم وافريقيا الوسطى (628) كلم. في هذه المعلومة عن أطوال الحدود دعمٌ لاستمرار السودان موحّداً كدولة واحدة لأن الاحتكاكات والنزاعات تتصاعد مع أطوال الحدود المشتركة، ويكفي مثال واحد لما يحدث الآن في حدود يوغندا الشماليّة من هجمات وترويع المواطنين من جيش الرب.
(5) الصادرات والواردات
تبلغ كل صادرات الدول الخمس المجاورة للجنوب حوالي (14.5) مليار دولار، بينما تبلغ صادرات السودان الموحّد (12) مليار دولار، وتبلغ واردات تلك الدول الخمس (26) مليار دولار والسودان (9) مليارات دولار، وهذا يعكس بصورة واضحة مدى ضعف اقتصاد تلك الدول الخمس مقارنة بالسودان الذي يحقق فائضا بين الصادرات (12) مليار والواردات (9) مليارات دولار.
خلاصة:
الأرقام الموثوقة في الجدول المرفق والتحليل السابق في خمسة أوجه فقط يؤكد الآتي:
1- جنوب السودان محاط بدول جوار تعاني في كل أوجه الحياة، مثل ضعف الاقتصاد في مجالات الصادر والوارد، الزراعة والبنيات التحتيّة.
2- تعاني هذه الدول من عدم وجود سواحل وموانئ.
3- نصف سكان هذه الدول تحت خط الفقر.
4- في المقابل مساحات الأراضي الزراعيّة في السودان تساوي أكثر من ضعف الأراضي الزراعية في كل الدول الخمس الباقية
5- مخزون البترول المؤكد في السودان يساوي (27) ضعف كل المخزون في دول جوار الجنوب الخمس.
6- الشئ المادي الوحيد الذي قد يفكر فيه دعاة الانفصال هو البترول وعائداته الكاملة للجنوب، لكن هذه نظرة ضعيفة للأسباب الآتية:
(أ) بالحساب وبافتراض أن البترول المكتشف ومستغل حالياً وهو في حدود 500.000 برميل في اليوم مشترك بنسبة30% للشمال، 70% للجنوب، في حالة الانفصال وعند التسوية الشاملة سيتم اعتماد وخصم كل الاستثمارات التي صُرفت من الشمال لإخراج وتصدير البترول وجدولتها في الحصة اليوميّة لصادر البترول، وهي في تقديري وبكل المقاييس لن تقل عن 15% من العائد اليومي للصادر، ثم إضافة إيجار الخط الناقل بالأنابيب من موقع الإنتاج، وهو لا يقل بأي حال من الأحوال عن 10% بذلك يصبح نصيب الشمال حوالي 50 إلى 55% من العائد اليومي لصادر البترول، وهي تقريباً النسبة المحدّدة في اتفاق السلام الشامل، علماً بأن مخزون الخمسة بلايين برميل حدوده الجوفيّة والسطحيّة بين الشمال والجنوب غير معلومة على وجه الدقة.
ملاحظة هامة أن إنشاء خطوط أنابيب بترول جديدة عبر جبال كينيا حتى ممبسا وهي ستكون آلاف الكيلومترات من شمال جنوب السودان سوف يكلف مليارات الدولارات وسنين لا تقل عن خمس.
عليه نقول هل يمكن أن يكون وجود البترول في الجنوب بكل مشاكله المذكورة آنفاً والسلبيات الموثقة عن دول الجوار، دافعاً مادياً مشجِّعاً للانفصال؟ لا يمكن..
لا نغفل الدوافع الأخرى غير الماديّة لدعاة الانفصال، فهي في معظمها شخصية Subjective وليست موضوعية Objective مثل مواطن من الدرجة الثانية .. هنالك شماليُّون بهذه المقاييس من الدرجة الثالثة والرابعة.. كيف يكون المواطن الجنوبي من الدرجة الثانية والنائب الأوّل لرئيس الجمهوريّة، وهو يمثل أقل من ثلث سكان السودان، من الجنوب؟ أين سكان الشرق والغرب من هذا التمثيل؟
هل يوجد فقر ومعاناة في الجنوب أكثر من الشرق ودارفور؟ حتى في التقاليد والعادات الاجتماعيّة في شمال السودان ما زالت هناك حواجز خاصة في الزواج بين الأجناس والأعراق، لكن لم تدعُ هذه الحواجز إلى إثارة أي شعور بالمواطنة ودرجتها.
هل في كل قوانين السودان الحاليّة والمقترحة أيّة مادة تتحدّث عن مثل هذه الدرجات في المواطنة؟
هذه عُقد وموروثات ستختفي تدريجيّاً بالتعايش العفوي وليس بالقوانين.
حتى في الجنوب نفسه بهذه المقاييس هنالك من يعتبر نفسه مواطناً من الدرجة الثانية وسوف تزيد هذه العبارات عند الانفصال بدرجة خطيرة.
الشئ الأخير غير المادي الذي يشجع دعاة الانفصال هو تنفيذ كل بنود الاتفاقيّة الشاملة، وهذه كما أسلفت مقدور عليها تماماً في شهور قليلة متى ما هدأت النفوس وتوقّفت الاتهامات والتشكيك بخلفيّات الماضي.
نحن ندعو للوحدة وهي الخيار الأفضل في ظل كل التعقيدات الداخليّة والخارجيّة، ونحن اخوان والذي يجمعنا أكثر من الذي يفرقنا، وعاش الاخوة من جنوب السودان بيننا سنوات طويلة والكثير منهم مولود في الشمال وهم متفاوتون في أوضاعهم الاجتماعيّة كما الشماليين، منهم من هو في السلطة وفيهم الثري وفيهم متوسط الحال وفيهم العامل البسيط الذي يكابد الليل والنهار في إعاشة أسرته.
في نفس الوقت لا نخشى الانفصال ولن نعاني في الحدود الجديدة مع الجنوب أكثر مما نعاني الآن مع تشاد بحدودها معنا البالغة 1360 كلم، مقارنة بـ 1073 كلم مع الجنوب، ولن نموت جوعاً فلنا أكثر من 200 مليون فدان صالحة للزراعة تُعرض على المستثمرين من الدول الصديقة، ولنا حوالي 50% من عائدات البترول على الأقل لمدة خمس أو عشر سنوات بعد الانفصال.
عمر البكري ابو حراز:اخر لحظة