حينما بدأت الإنقاذ مرحلة التحول الأول من شمولية قابضة تعين الولاة والمحافظين والضباط الإداريين من الخرطوم وتدفع بهم للأطراف.. اختارت «ديمقراطية نصف كم» يجتمع المجلس التشريعي للولاية مضافاً إليه رؤساء المحليات وأمناء الحركة الإسلامية بعباءات متعددة الألوان ويتم ترشيح مجموعة من القيادات من قبل الحكومة المركزية التي كانت حينذاك تعمل بمنهج «الباطنية» المظهر في القصر والجوهر في
المنشية تصدر القرارات بموجب ورقة تمر من المنشية للقصر من خلال د. علي الحاج في ديوان الحكم حيث امتهن طبيب النساء والتوليد جراحة تقسيم السودان لولايات ومحافظات وفيما تمليه عليه «باطنية» التنظيم وظاهرية الدولة «الإنقاذ»
جاءت ديمقراطية المجالس التشريعية بالمهندس إبراهيم محمود في كسلا وعبد الرحمن أبو مدين في النيل الأزرق ود. مجذوب الخليفة في الخرطوم وإبراهيم السنوسي في الأبيض وصافي النور بالفاشر ود. الحاج آدم يوسف في نيالا وإبراهيم يحيى في الجنينة ود. بشير آدم رحمة في الفولة وعبد الله أبو فاطمة في بورتسودان وانتاب الولاة المنتخبين من قبل المجالس التشريعية شعوراً بالاستقلالية عن المركز وأن مصدر سلطتهم في ثقة المجالس التشريعية وليس في المنشية أو ديوان الحكم الاتحادي واتّخذت التجربة منحى متمرداً على المركز قاده الشيخ إبراهيم السنوسي باسم «كيان غرب السودان» والذي اعتبره بعض المحللين الشرارة التي أيقظت أسد التمرد من داخل عرينه لتسقط التجربة غداة انقسام الإسلاميين في الرابع من رمضان.
العودة للقديم
وشهدت سنوات ما بعد غروب شمس «ديمقراطية نصف الكم» استقراراً نسبياً في الولايات وحظي الولاة بسلطات واسعة في التعيين الذي كان مشروطاً في السابق بموافقة الخرطوم والتصريح بالقلم «الأخضر» لكن في حقبة ما بعد الرابع من رمضان أصبحت سلطات الولاة تبدأ من الفصل والتعيين والنقل من موقع لآخر رفعت عنهم مساءلة المجالس التشريعية وحتى زيادة المحليات وتجميدها من سلطات الولاة التي لا ينازعهم المركز فيها ولكن مع دخول النفط دورة الاقتصاد أصبحت ولايات كانت تسدد الفصل الأول مرتبات وتشيد المدارس والمستشفيات فقيرة يستجدي الوالي وكيل المالية من أجل المليون جنيه أعطاه اياه أو منعه وأغلق هاتفه وأمر سكرتاريته بحظر دخول مكتبه إلا لمن يرضى عنه الوكيل.. ولم تضف اتفاقية السلام جديداً لواقع الولايات سواء «تسكين» بعض قيادات الحركة وأحزاب المعارضة السابقة في بعض الوزارات الولائية والمعتمدين ووزراء شؤون الرئاسة الذين يطلق عليهم دستوريين جزافاً وما هم بذلك إلا السيارات الفارهة والراتب والشاي في مكاتب تشكو قلة الورق والملفات.
الديمقراطية القادمة
اتّخذ المؤتمر الوطني قرار خوض الانتخابات القادمة ولكنه احتفظ بنصف الكيكة للسلطة العليا ومنح النصف الآخر لأجهزة الحزب في الولايات من شورى ومؤتمر عام وشهدت الأيام الماضية حملات تعبئة داخل المؤتمر الوطني وسط القيادات التي تبحث عن ثقة الأجهزة الحزبية قبل امتحان الجماهير وأرتكب المؤتمر الوطني خطأ فادحاً بتزامن حملة تسجيل الناخبين مع حملات التعبئة الصامتة لعقد مجالس الشورى والمؤتمرات الاستثنائية فانصرفت قيادات الحزب الوسيطة والقاعدية لترشيح من تعتقد أنه الأقوى والأوفق لقيادة مرحلة عمرها «5» سنوات لا يملك فيها رئيس الجمهورية حق إعفاء الوالي المنتخب من الجماهير وأصاب حملة تسجيل الناخبين كساداً كبيراً وفشلت مفوضية الانتخابات في حشد الإعلام لقضية التسجيل لأن أعضاء المفوضية يغلب على تكوينهم «الوظيفية» والاستقلالية السالبة في مجتمع متعدد الانتماءات السياسية ومنقسم بين ولاء الطائفة والحزب العقائدي والعشيرة والقبيلة وصمم المؤتمر الوطني لائحة ترشيح تجعل القيادة العليا في وضعية من «يقبض» على الخيوط دون شعور القاعدة بالوصاية.. ونشطت القيادات الولائية المقربة من الولاة في تصميم سياسي يأتي بخمسة مرشحين للخرطوم لتختار من بينهم مرشح الحزب لمنصب الوالي ولكنها تفاجأت بمنافسين آخرين سحبوا من تحت أرجلها غطاء الشورى والمؤتمر العام وأصبحت الخرطوم تقف «متأملة» ما يجري من تنافس ديمقراطي وسط قواعد وقيادات حزب يتم «دمغه» من قبل خصومه بالشمولية والدكتاتورية وأخذ د. نافع علي نافع مهندس بناء المؤتمر الوطني يبتسم للديمقراطية متى يعيشها حزبه.. في القضارف جرف التيار الشعبي العام الذي يقوده كرم عباس الشيخ الوالي للمرتبة الثالثة. وفي مدني نجح البروف الفيلسوف الزبير بشير طه في دحرجة منافسيه بعيداً عن جسر حنتوب وجاء بوزراء حكومته والمقربين منه لينافسوه في ثقة المكتب القيادي وفي الخرطوم كانت التجربة أكثر ديمقراطية وحضارة من بقية الولايات باختيار نجوم السياسة وحرس الإنقاذ القديم فأفرزت الانتخابات التي أشرف عليها د. عوض الجاز ما عرف بنجوم الخرطوم بالليل لكن النجوم في حقبة الكهرباء لا تظهر إلا في حالة انقطاع تيار كهرباء مروي وبحري الحرارية.
الحرس القديم في الاختبار
تصاعد تيار التجديد داخل المؤتمر الوطني منذ سنوات لكن القابضين على مفاصل السلطة يقاومون بالمضادات الحيوية ورحلات العلاج الدورية للشقيقة الأردن وقد وجدت دعوة التجديد سنداً وظهراً تتكئ عليه بحديث علي عثمان محمد طه نائب رئيس الحزب في مؤتمر القطاع الشبابي بيد أن الدعوة للتجديد تواجهها عراقيل ومصاعب رغم تنحي الجيل الأول عن القيادة طوعاً مثل أحمد عبد الرحمن محمد والراحل الكاروري ومحمد يوسف محمد والفاتح عابدون والتجاني سراج وإبراهيم السنوسي وأصبح علي عثمان وعوض الجاز وبروفيسور إبراهيم أحمد عمر وأحمد إبراهيم الطاهر يمثلون شيوخ الإسلاميين.
في الولايات التي جرت فيها اختبارات الشورى والمؤتمرات العامة.. اختفت الأجيال الثانية والثالثة وولاية مثل النيل الأبيض اختفى فيها عثمان الهادي والشنبلي وجاء محمد نور الله التجاني متقدماً سباق الولاية وكان متوقعاً أن يشهد منافسة من قيادات مثل محمد حامد البلة وحاتم الوسيلة ولكن كما يردد فنان الطنبور جعفر السقيد «لسان الحال غلب» وجاءت سلطة النيل الأبيض التي تقبض على مفاصل الدولة والحزب ووضعت القيادة العليا أمام خيارين لا ثالث لهما إما تجديد الثقة في الوالي نور الله أو اختيار قيادة جديدة من الذين حول نور الله وكان أعضاء الشورى وهم في طريقهم لاختيار السبعة البررة الذين بايعوا د. نافع تحت الشجرة يحفظون أبياتاً لعالم عباس «نمنمات من حرير الدانتيلا»
من بعد عنفوان مجد عربها العجول
بالسيوف والكتاب والخيول
عادت السيوف للجفير
والكتاب للمتحف
وعادت الخيول بالصهيل
عاد فرسان البلاط
من قلاع مرمر الصدور
وبعودة الطاقم القديم لحكومة النيل الأبيض انتحرت أحلام المجددين ما بين القطينة والعرشكول والشيخ الصديق..
وفي فاشر السلطان «أبو زكريا» الذي نعته الشريف زين العابدين الهندي بآداب العصاة زول زول تقدم عثمان يوسف كبر على منافسيه قبل بدء السباق المحموم يوم السبت القادم الرابع عشر من نوفمبر الذي يشهد في القاهرة واقعة لعبة في كرة القدم أشبه بالمعركة السياسية والحربية بين أحفاد الفراعنة ومحاربي الصحراء الذين كان استقلالهم عن فرنسا ثمنه مليون شهيد!! في يوم السبت بفاشر السلطان علي دينار يتم حسم السباق بين عثمان يوسف كبر الذي يقف في المنطقة الوسطى بين القبائل العربية والأفريقية وعلى يديه خرجت الفاشر من محنة الاحتلال بيد ملشيات التمرد ورمزية وجود دارفور في قلب الأحداث وصناعة السياسة من خلال وال جاء من أقصى الشمال الشرقي ولكنه انتزع إعجاب الجميع لكنه يدخل منافسة مع الجنرال صافي النور الذي يمثل ثقل العسكريين الإسلاميين ويمثل رمزية مقاومة التمرد حينما تصهل الخيل بالرحيل واللواء إسماعيل الحاج يوسف وآخرين واختيار الديمقراطية في شمال دارفور ينتظره حتى أتباع التمرد ومشجعوه في الداخل وهم يمنون النفس برحيل عثمان كبر عن السلطة لإعادة احتلال المدينة ولكنهم بالطبع لا يتمنون أن تنصب الجماهير صافي النور والياً حتى لا يعكّر صفو خليل إبراهيم وشارون وآخرين من قيادات التمرد التي تعول على طول ماسورة البنادق التي نصبت على سيارات اللاندكروزر.. وقد ترجّل الحرس القديم من قيادات المؤتمر الوطني في شمال دارفور أما بداء الانقسام والإحباط أو لعوامل مقاومة التمرد التي لا يقوى عليها من بلغ السبعين من العمر..
وفي نيالا هناك معركة سياسية أخرى مؤجلة لم تتضح بعد أبعادها ولكنها معركة أصبحت في حيّز جنوب العاصمة ما بين علي محمود وعبد الحميد موسى كاشا وربما دفعت القيادة السياسية بمفوض العون الإنساني حسبو محمد عبد الرحمن لتجديد الدماء في ولاية أصابتها أمراض العظام والقلب وقليل من الملاريا والتايفويد..
يوسف عبد المنان : اخر لحظة