لو كان فلان هذا وفلان ذاك وفلانة تلك وغيرهم العشرات ممن أصبحوا الآن من ذوي الحظوة والبسطة في السلطة والثروة والجسم أيضاً، وهم الذين عاشوا حياة البؤس والفقر والتعاسة وخرجوا من أصلاب آباء فقراء ومن بيوت الطين والجالوص والزبالة، ودرادر القش ورواكيب القصب وجريد النخل، وخيم السعف والشعر والجلود. لو كان هؤلاء قد عاشوا في زمن كان فيه التعليم مثله مثل أي سلعة كمالية غالي الثمن وباهظ الكلفة- كما هو حادث الآن-هل كانوا سيكونون شيئاً مذكوراً؟. الإجابة التلقائية والمنطقية تقول وبواقع حالهم ذاك أنهم لن يكونوا سوى أميين لا يفكون الخط أو فاقد تربوي ضاعت طفولته ولم يجد لنفسه أي مستقبل غير أن يمارس الأعمال الشاقة والهامشية أو شماشة يهيمون في الشوارع يستنشقون البنزين والسلسيون ويقتاتون من فضلات الكوش ويقضون حاجتهم وليلتهم داخل المجاري.
دائماً ما كان يلح على خاطري هذا السؤال مع بداية كل عام دراسي حين يهل حياة الضعفاء والفقراء ومحدودي الدخل إلى قطعة من العذاب، ودائماً ما كنت أجيب عنه بالإجابة التلقائية والطبيعية التي لا يقبل غيرها، ثم أتعجب وأستنكر، لماذا لا يسأل هؤلاء أنفسهم هذا السؤال، هل تراهم نسوا ماضي فقرهم وشظفهم وتنكروا له، بعد أن قفزوا من حياة البؤس والشقاء إلى مراقي العائلات المخملية و«الناس النقاوة»، والمجتمعات الارستقراطية، فأصبحوا يصطافون ويتعالجون خارج البلاد ويعلمون أبناءهم في مدارس الاتحاد وكمبوني وسان فرانسيس وجامعات كيمبردج وكينجز كولدج وهارفارد والسوربون وغيرها من أرقى جامعات العالم، ولم يبق في مخيلتهم ما يربطهم بماضيهم الحزين الذي ركلوه ومسحوه من تلافيف الذاكرة ولسان حالهم يقول «الله يقطع الفقر والفقراء وسنينهم. ونستطيع أن نؤكد بكل ثقة ويقين أن هذا هو ما صار إليه حالهم، فلا شيء يخفي على الناس في السودان، بينما لا يستطيع الفقراء إلحاق أبنائهم حتى بمدارس الميري على علاتها وما تعانيه من فقر مثلهم في كل مطلوبات العملية التعليمية في حدها الأدني، وزادها هذا الموسم المطير ضغثاً على أبالة، وأحال غالبها إلى ما يشبه الزرائب والخرائب.
قصص محزنة ومؤسفة لا حصر لها وشكاوى بلا عدد تسمعها عن شقاء الناس مع الرسوم الدراسية، وأخرى مثلها بل أشد إيلاماً عن أرباب الأسر الذين أخرجوا أطفالهم من الصفوف المدرسية وأبقوهم بالمنازل أو دفعوا بهم إلى سوق العمل يبيعون مناديل الورق في الطرقات أو أكياس النايلون للمتسوقين أو غيرها من مهن هامشية وهم في هذه السن الغضة التي تمنع القوانين مزاولتها أي عمل، ومثل هذا المصير البائس والتعيس الذي يكابده هؤلاء الصغار كان سيكون هو المصير الطبيعي لكثير من أهل السلطة والثروة اليوم لو أن حال التعليم على زمانهم كان مثل حاله اليوم، الذي أنقذهم من أن يصبحوا شماسة ورفعهم إلى أن يصبحوا سراة قوم وسادة هو أنهم في زمانهم أكلوا في المدارس وشربوا وسكنوا وترفهوا ووجدوا العناية الطبية فيها من المراحل الأساسية، وإلى ما فوق الجامعية بالمجاااان.. فما بالهم الآن.
بشفافية – صحيفة التغيير
حيدر المكاشفي