في انتظار بدء الدراسة في كلية الآداب، بعد تركي لكلية الحقوق/ القانون في جامعة الخرطوم، عملت مدرسا في المرحلة المتوسطة، وكنت أتقاضى راتبا ضخما قدره 21 جنيها، وصادف ذلك ظهور أول قمصان جاهزة في السودان، وكان أول محل يبيعها لحسن حظي هو «سلوى بوتيك» في التقاطع الذي يُعرف في الخرطوم بحري بـ«المؤسسة»، وكان صاحب المشروع هو المليونير السوداني الراحل خليل عثمان، الذي استثمر الاموال التي جمعها من عمله في الكويت في مجالات صناعية مهمة مثل الصناعات الدوائية، وكان أيضا صاحب مشروع التاكسي الجوي الذي كان يتألف من طائرات صغيرة تقوم بنقل رجال الأعمال والوفود إلى مختلف المدن والأقاليم داخل السودان، وكانت الطائرات في ذلك الزمان «تطير» من دون أن تقع أو تحترق فور الإقلاع أو الهبوط، ولن أنسى ذلك اليوم الذي اشتريت فيه قميص «روز» صينيا مصنوعا بالكامل من النايلون، وبالتالي لم يكن يحتاج أو يتحمل الكي، وكانت تلك خاصية عظيمة إذا أخذنا في الاعتبار أن المكواة في ذلك الزمان كانت عبارة عن صندوق حديدي قاعدته ملساء يتم حشوه بجمر الفحم الخشبي المتقد، وعند القاعدة كانت هناك فتحات صغيرة كثيرة تسمح بالتخلص من الرماد بهز المكواة ورجِّها بعيدا عن الملابس، ولكن كل من استخدم تلك المكواة يعرف أنه مهما كان حريصا، فإن جمرة صغيرة او شرارة تتسلل عبر فتحة ما وتسبب ثقبا في قطعة الملابس التي يتم كيّها، ولو لامست شرارة مهما كانت ضآلتها قميص روز النايلوني لقضت عليه تماما، وشاءت الأقدار أن أشهد في تلك الفترة التي كنت فيها من أبناء الطبقة الارستقراطية، افتتاح أول محل لأحذية جلدية، بعد أن ظلت شركة باتا تحتكر أقدام السودانيين لقرابة نصف قرن، وكان المحل أيضا لحسن حظي في مدينة بحري ويحمل اسم «أسندكو»، وبعيدا عن اللف والدوران فزبدة الكلام هي أنني صرت أنيقا، ومواكبا للموضة (داخل السودان فقط طبعا).
ولكن أهم إنجاز لي بعد أن صرت أتقاضى 21 جنيها نظير عملي بالتدريس، هو أنني انتهزت فرصة أول إجازة مدرسية قصيرة وتوجهت إلى أهلي في مدينة كوستي محملا بالهدايا الثمينة، ومن بينها عدة علب من العسل أبو أسدين الإنجليزي، الذي كنت أعرف أن إخوتي «يموتون فيه»، وشخصيا ما زلت أموت فيه إلى يومنا هذا، وأذكر أنني سلمت شقيقي عابدين مبلغا من المال وقلت بكل فخر: ماهيتي/راتبي كبير وسأساهم في ميزانية البيت بعشرة جنيهات شهريا، فقال لي: خليها خمسة.. وافتح حساب توفير في البوستة/ البريد تضع فيه ما يفيض عن حاجتك من مال عشان لما ترجع الجامعة ما تعمل لينا وجع رأس بالمطالبة بالمصاريف الشهرية (وبالفعل لم أطالب أهلي بقرش واحد بعد استنئنافي لدراستي الجامعية، بل عشت حياة جامعية مرفهة: عندي دفتر توفير بريدي، وخلال جميع إجازاتي الصيفية وأنا طالب جامعي حصلت على عمل من نوع أو آخر، وكان من حسن حظ أبناء وبنات جيلي أن الزعيم الوطني الراحل الشريف يوسف الهندي عندما كان وزيرا للمالية، أنشأ بندا في الميزانية بمسمى «الإدارة العامة»، وكان الغرض منه منح فرص عمل لأكبر شريحة ممكنة من الشباب للحصول على وظائف بسيطة تدر عليهم رواتب بسيطة، وبالتالي لم تكن تسمعنا نقول: يا أمي/ يا أبوي، ممكن مبلغ كذا وكذا عشان اشحن جوالي؟ بل كنت تسمعنا نقول: هاك يا أمي/ أبوي أنا عندي فلوس كفاية وخلي المبلغ دا معاك.
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]