فات الأوان…وقع العطش

من المعلوم وما لا يخفى على أحد أن مشروع الجزيرة يمثل ركيزة من ركائز الاقتصاد السوداني، حيث لا يمكن الاستغناء عنه بأي حال من الأحوال، إلا أنه في الآونة الأخيرة طاله الإهمال الذي ربما يكون سبباً في تدهوره، ولعل موجة العطش العارمة التي اجتاحت بعض أجزائه جعل “الرائد” تتجول داخل المشروع والبحث عن الحقائق والكتابة عنها بكل حيادية لإيصال المعلومات الصحيحة والموثقة، وليس كما يكتب البعض الذين يعتمدون على النظريات دون غيرها.. فكانت جولتنا بالقسم الشمالي الغربي للمشروع وبالتحديد مكتب (الفراجين) باعتباره المكتب الطرفي المتضرر.. وبحثنا عن الأسباب التي أدت إلى ذلك؛ وكيفية معالجتها؛ وما هي الآثار التي تترتب على هذا الأمر، فكان هذا التحقيق:
ضرر بالغ:
بدأنا جولتنا بترعة “قراش الجديدة” والتقينا بالمزارع عثمان إبراهيم محمد علي والذي أبدى استياءه وغضبه مما آل إليه حال محاصيلهم الآن فقال: في تقديري أن أحد الأسباب الرئيسية هو عدم تطهير القنوات، حيث تعرضت محاصيل الذرة والقطن والفول إلى التلف وأصابها ضرر بالغ، وذكر عثمان بأنهم قاموا بتشكيل تيم من المزارعين لمحاولة تفادي هذه المشكلة وري المحاصيل، إلا أن جهودهم باءت بالفشل ولم يكتب لها النجاح، نسبة لضعف منسوب المياه، ويطالب عثمان المسئولين بزيادة منسوب المياه، وإن المزارعين متخوفون الآن من دخول السجون بسبب المديونيات.
أطماء وحشائش:
وبذات الترعة “قراش الجديدة” وجدنا المزارع بشرى جاد الله البشرى عضو رابطة مستخدمي المياه، والذي ذكر بأن العطش يعود السبب فيه إلى الأطماء والحشائش التي أدت إلى إغلاق بعض الترع تماماً، وكما ترى فإن الترع تحولت إلى معسكرات من المزارعين والكل يتسابق لري محصوله.
تأخر الآليات:
والغريب في الأمر وللأمانة أننا بعد توغلنا إلى الداخل وبذات الترعة وجدنا آلية تعمل في تطهيرها “كراكة” الأمر الذي استوقفنا وولدت عدة أسئلة في أذهاننا، وطالما أن هذه الآلية تعمل ورأيناها بأم أعيننا إذن هنالك جهد مبذول من قبل مسئولي الري، لذلك توجهنا بالسؤال إلى المزارع بشرى نفسه: الآن نلحظ أن هنالك آلية تعمل، إذن من الطبيعي جداً أن يساعد ذلك العمل في التقليل من حدة المشكلة فما هو رأيك؟ أجاب بحرقة وألم: الآليات جاءت متأخرة وبعد فوات الأوان، واستفهم بشرى قائلاً: لماذا لم تكن هنالك متابعة مستمرة من مسئولي الري؟ وبما أننا لا نستطيع الإجابة عن تساؤله لذلك لم يكن بوسعنا سوى الصمت على أمل طرح السؤال لمن يهمهم الأمر.
إمكانات ولا إمكانات:
وفي أثناء تجوالنا داخل المكتب وبين أوساط المزارعين، لاحظنا أن هنالك مجموعة من الوابورات التجارية تعمل على شفط المياه من الترع وتوزيعها داخل الحواشات، فهي محاولة من المزارعين للخروج بمحاصيلهم إلى بر الأمان..إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه: هل يتساوى المزارعين في إمكاناتهم المادية؟ وماذا يفعل من لا يملك وابور أو ما يستأجر به تلك الوابور؟ تحدثنا مع أحد المزارعين عن هذا الأمر فأرشدنا إلى مزارع آخر ينطبق عليه ما قد قلناه، وكان محدثنا هو المزارع فتح الرحمن البشير علي بترعة “قراش القديمة” والذي ذكر بأن الإمكانات المادية تلعب دوراً أساسياً في ري أو عدم ري المحصول، فمن هو ميسور الحال يمكن أن يخرج من تلك الأزمة، ومن هو غير ميسور الحال فلا عزاء له سوى أن يقف مكتوف الأيدي، وتبلغ تكلفة الفدان حوالي (50) جنيهاً للرِّيَّةِ الواحدة علماً بأن البعض قام بري المحصول ثلاث مرات.
عدم انضباط:
والناظر إلى الميجر الرئيسي الذي يمر بتلك المناطق والمتفرع من ميجر أبو عشر، ربما لا يصدق أن هنالك عطش، نسبة لمنسوب المياه الجيد، الأمر الذي يطرح تساؤلاً لماذا إذن العطش؟ هذا السؤال طرحناه على أحد المزارعين وسوف نطرحه على المسئولين أيضاً..فيقول المزارع صافي الدين أحمد علي عضو رابطة مستخدمي المياه بترعة (قراش): في تقديري أن عدم الانضباط في الري أو التنظيم هو سبب مباشر في حدوث العطش..إذن ما هو دور روابط مستخدمي المياه في هذا الأمر؟ توجهنا بالسؤال إلى المزارع صافي الدين نفسه بصفته عضواً في الرابطة، والذي أجاب بقوله: الحق يجب أن يقال فإن روابط مستخدمي المياه لا تحرك ساكناً ودورها غير فعال.. وعن أسباب العطش يقول: الزراعة العشوائية التي تسببت فيها الحرية المطلقة والصلاحيات الزائدة التي أعطاها قانون (2005م) للمزارع بأن يزرع ما يشاء، هي سبب رئيسي في ذلك، حيث اتجه معظم المزارعين لزراعة كل المساحات، فالمياه المخصصة للمشروع لا تفي بحاجته مقارنة بحجم المساحات المزروعة، لذلك يطالب صافي الدين بأن يكون هنالك تنظيم في المساحات المزروعة وعدم ترك الحبل على القارب للمزارع، لأن الحرية المطلقة تعني الفوضى.
الإدارة المباشرة:
وبترعة “دبيسة القديمة” تحدث إلينا عبد الرحيم عبد الله السماني رئيس رابطة مستخدمي المياه بالترعة والذي يقول: في تقديري أن عدم وجود أو توفر آليات تطهير القنوات هو السبب في هذا العطش، وحتى لا يدفع المزارع الثمن غالياً في محاصيل العروة الشتوية بعد الفشل الذي أصابه في العروة الصيفية ينبغي على المسئولين تدارك الأمر ومعالجة الأخطاء ومعرفة أماكن الخلل، وتذليل كافة العقبات التي يمكن أن تعترض نمو المحاصيل الشتوية، وكذلك عدم وجود الإدارة المباشرة سبب آخر لهذا العطش، والفوضى التي تحدث في الكباري لعدم وجود الرقابة المشددة الأمر الذي أدى إلى اشتباك المزارعين مع بعضهم البعض.
لجنة حصر الأضرار:
وبالنظر إلى هذا الوضع يمكن أن نطرح عدة أسئلة: ماذا يحدث للمزارع الذي أصابه الضرر؟ وكيف يمكن أن يقوم بسداد ما عليه من مديونيات للبنك الزراعي؟ وهل يمكن أن ترفع عنه التكلفة؟ أم ماذا يحدث بالضبط؟ كل هذه الأسئلة حملناها على أمل التوجه بها لإدارة البنك الزراعي ومعرفة الإجابات المقنعة عنها، إلا أنه أثناء تجوالنا بتلك المناطق رأينا عربة تتجول داخل حواشات المزارعين، فهرعنا إليها وقيل لنا مسبقاً أن هنالك لجنة مكلفة بحصر الأضرار الناجمة، وبالفعل استطعنا استنطاق ممثل البنك الزراعي وهو المفتش الزراعي محمد صديق أبو عاقلة، والذي ذكر بأن هذه اللجنة جاءت لمعرفة حجم الأضرار حتى تستطيع تخفيف العبء على المزارع ومشاركته الهم، وتريد الحصول على العديد من المعلومات المهمة مثل اسم المزارع المتضرر ورقم حواشته واسم الترعة التي تقع فيها وموقف الري بها وغيرها من البيانات، وهذه اللجنة مكونة من عدة جهات من بينها البنك الزراعي، ومفتشي الغيط واتحاد المزارعين ووقاية النباتات، وأنه في حالة تضرر المحصول فإن المزارع ترفع عنه التكلفة تماماً وتقوم الجهة المؤمنة بسداد مديونياته، إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه: هل رفع التكلفة بالنسبة لكل المحاصيل؟ فأجاب محمد صديق بقوله: التأمين للقطن فقط أما الذرة والفول فإن المزارع لم يدفع تأميناً عليها لذلك تستثنى من دفع التكلفة.
اتحاد المزارعين:
إذن ما هو دور اتحاد المزارعين وما هو تفسيره لهذا الأمر؟ طرحنا هذين السؤالين على الأمين العام لاتحاد مزارعي القسم الشمالي الغربي الطيب حمزة إبراهيم والذي يقول: في تقديري إن المشكلة سببها الرئيسي هي مكعبات المياه التي كانت ضعيفة في البداية، والأطماء التي تسببت في عرقلة انسياب المياه بالصورة المرجوَّة، ولذلك كما أرى أنه يجب تطهير القنوات حتى يستطيع المزارع أن يعوض ما حدث له بمحاصيل العروة الشتوية، عموماً فإن هنالك جهوداً مبذولة ومقدرة جداً من إدارة ري شمال الجزيرة وعلى رأسه د. صلاح أحمد عبد الله مدير الري للحدِّ من تفاقم المشكلة.
زيادات غير منطقية:
وفي الختام وإكمالاً لحلقات هذا التحقيق وضعنا تلك الأسئلة والملاحظات أمام مدير ري شمال الجزيرة د. صلاح أحمد عبد الله والذي يقول: في تقديري إن الأسباب التي أدت إلى ذلك يمكن تلخيصها في تجاوز المزارعين للمساحات المصدَّق بزراعتها- أي التكثيف الزراعي- حيث وصلت المساحات المزروعة إلى أكثر من (80%) في بعض المناطق وعلى سبيل المثال نجد أن في ري عبد الماجد كانت المساحات المصدق بزراعتها حوالي (22.300) فدان إلا أن المساحة التي زرعت بلغت حوالي (47.600) فدان فهذه زيادة فائقة جداً، فهذه الزيادة انعكست سلباً على المحاصيل أو الري، وفي ري شمال الجزيرة أقول وبكل أمانة إن المياه لم تنقص أكثر من (5%) فقط من النسبة المتفق عليها وأقصى نسبة كانت حوالي (6200) متر مكعب وعندما نقصت وصلت إلى (5800) متر مكعب وهو نقصان لا يؤثر كثيراً..وأضاف د.صلاح: سوء تنظيم الغيط أو إدارة المياه بالغيط هو أيضاً من الأسباب التي أدت إلى العطش، فهنالك سوء إدارة، فقديماً كانت الإدارة تفرض غرامات مالية على من يقوم بكسر المياه خارج الغيط، والآن الأمر اختلف تماماً فلم تعد هنالك رقابة.
عقد مجحف:
وفي رده على سؤال الصحيفة يقول د. صلاح: اتفاق نظافة القنوات من الأطماء والحشائش يمول من وزارة المالية، ولكن هذا العام كان هنالك عقد مجحف جداً بين الوزارة والشركات العاملة أو التي تمتلك آليات التطهير، ومفاده أن تعطي الشركة (10%) من مستحقاتها وما تبقى (90%) تُعطى لهم بعد ثلاث سنوات، الأمر الذي جعل الشركات الموجودة تكون غير راغبة في العمل، فلا توجد آليات عاملة بالصورة المطلوبة..عموماً فإن الفاقد غير مؤثر بصورة مزعجة ويمكن معالجته بأيسر الطرق إذا كانت هنالك جدية ونقاش مهم ووضع النقاط على الحروف، والآن وبحمد الله عملنا لم يتوقف ونعمل بكل نكران ذات من أجل حل كافة العقبات.
عموماً يمكن أن نقول بأن العاملين بالمشروع غير مهيئين نفسياً للعمل وبالتالي يحدث مثل هذا الإهمال، ولا بد من معرفة الأسباب الحقيقية التي دعتهم إلى ذلك، وبجولتنا داخل المشروع اكتشفنا أن عدم صرف رواتبهم وتأخرها سبب رئيسي لعدم تفرغهم للعمل، كذلك فهم يتوقعون تحت أية لحظة إخلاء سبيلهم وإيقافهم عن العمل.
المكاشفي عبد القادر :الرائد

Exit mobile version