تم قبولي في كلية الحقوق (القانون) التي احتلت مبانيها الأصلية إدارة الجامعة وبالتحديد وكيل الجامعة، كما احتلت داخلية بحر العرب التي كانت للطلبة السينيار (وليس السينيور)، وكانت دفعتنا من 40 طالبا، ولكن الدكتور حسن الترابي الذي كان يا دوب طالع من الفرن مسلحا بالدكتوراه من جامعة السوربون وكان يدرسنا مقدمة القانون الجنائي، كان يردد أن هذا العدد «كبير»، وسواء كان العدد كبيرا أم لا، فإن النظام التعليمي في جامعة الخرطوم لم يكن يرحم، وما من دفعة فيها إلا وتعرض للفصل النهائي منها بسبب الرسوب عدد كبير منها، ففي السنة الأولى مثلا إذا رسبت في أكثر من مادتين: «بيتكم» أو تعيد السنة حسب قوانين كل كلية، وإذا رسبت في مادتين من حقك الجلوس لامتحان الدور الثاني (الملاحق بلغة جامعتنا) بعد صدور النتائج بنحو شهرين ونصف الشهر، فإذا رسبت في مادة واحدة منها إما «بيتكم» أو تعيد السنة، يعني لم يكن النظام يسمح بـ«شيل» وترحيل مواد الرسوب والجلوس للامتحان فيها حسب التساهيل، وكانت كلية القانون هي المساهم الرئيس في إصدار مجلة «سودان لوو جيرنل آند ريكوردس» أي مجلة وسجل القوانين والسوابق القضائية السودانية، وبالتالي كنت تجدها في جميع المحاكم ومكاتب كبار المحامين، وتحتل تلك المجلة حيزا كبيرا في مكتبات جامعات ليدز وريدينغ ودرام (وليس درهام Durham) البريطانية، وكانت تشرف عليها سيدة اسمها إحسان فخري كانت أول سودانية تدرس القانون وأول عربية تلتحق بسلك القضاء (1965) حتى صارت عضوا في محكمة الاستئناف العليا (أول امرأة تدخل البرلمان في العالمين العربي والأفريقي بالانتخاب الحر كانت السودانية فاطمة أحمد إبراهيم)
كانت أكثر مادة تعجبني في الكلية، القانون الروماني الذي كنا ندرسه بوصفه أول تجربة للقانون المدني والجنائي في تاريخ البشرية، ورغم أنني هجرت تلك الكلية، إلا أنني ما زلت أعرف كل المصطلحات الرومانية واللاتينية التي قامت عليها تلك القوانين، واستفدت من ذلك لأن هناك الكثير من العبارات اللاتينية المستخدمة في الإنجليزية الفصحى، وصرت شغوفا بتلك المصطلحات لأنها بليغة وتوفر عليك اللت والعجن باستخدام مفردات كثيرة، وفي تلك الكلية صادقت بعض أبناء جنوب السودان فكانت علاقة صمدت أمام الحساسيات العرقية والسياسية والدينية.
وسحبت أوراقي من كلية الحقوق/ القانون وقدمتها إلى كلية الآداب، لتحقيق رغبة انغرست في نفسي منذ التحاقي بالمدرسة المتوسطة للتخصص في اللغة الإنجليزية، ولكنهم قالوا لي: فات الأوان.. غيب وتعال، أي لا يحق لك الالتحاق بكلية الآداب إلا في العام الدراسي التالي، وكان بإمكاني البقاء في المسكن الجامعي دون أن يقول لي أحد «بِغم»، ولكنني قررت الاستفادة من المرحلة الانتقالية بالحصول على عمل، وبالفعل صرت مدرسا في «الخرطوم بحري الأهلية الجديدة الوسطى»، وبالتحديد أسست تلك المدرسة مع أروع المربين، الراحل الجميل في كل شيء عبد الفتاح عباس صالحين، يعني عمليا كنت نائب المدير و«أسرة التدريس»، وكانت مبانيها حيث مدرسة بحري الثانوية الحكومية الآن، ضمن مباني مدرسة «بحري الأهلية القديمة»، وقضيت فيها بعض أجمل فترات عمري، وبسبب ذلك عشقت التدريس، وسبق لي الإشارة في كتابي الأخير «سيرة وطن في مسيرة زول»، إلى أنني والأستاذ صالحين وقعنا في حيص بيص، لأنه كان مثلي «ماحي» في الرياضيات، وقدم لي رشوة من جيبه الخاص كي أذاكر دروس الحساب (خذ في الاعتبار أن المدرسة كان بها فصل واحد فقط في السنة الأولى) ثم أدرس التلاميذ، وبأمانة حاولت واجتهدت، ولكن واجهتني مواقف محرجة كثيرة فاضطررت للاستعانة ببعض زملائي في الجامعة لتدريس الرياضيات وكنت أدفع لهم رشوة من جيبي: خمسة قروش أو سندويتشات أو زجاجة كولا.
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]