يتهادى صوت (أم كلثوم) إلى مسامعي، فيسري الخدر في روحي.. تجدني برغمي أتنهد بعمق ثم يهدأ كل ما بداخلي وتركن مشاعري إلى الاسترخاء. أهرع إليها كلما عصفت بي رياح الحياة ﻷغتسل عندها من أوجاعي وأساي.. كل العقاقير المهدئة لا يمكنها أن تفعل بي ما يفعله صوتها أو صوت صنوتها (فيروز)!
واليوم.. حين طرقت مسامعي (ثورة الشك) تأملتها طويلاً.. وتعجبت في ذلك الصدق المشع من كلماتها.. وتساءلت عن ما كان عليه شعور كاتبها حين جلس إلى وريقاته ليعاتب ابنه دون أن يدري أنه قد كتب لهذا العتاب الخلود ليصبح سفراً يتداوله الناس كلما ناوشتهم الظنون.
(أكاد أشك في نفسي لأني.. أكاد أشك فيك وأنت مني)! فكيف كان احتماله لهذا الشك المؤلم وهو يحوطه من كل جانب؟ وكيف يمكن لأحدنا أن يتعايش مع ارتيابه في تفاصيل أحدهم ولاسيما إن كان من المقربين الذين ائتمناهم على ثقتنا وحبنا؟
إن معظم الأزمات العاطفية التي نعبرها الآن سببها الشك! والمؤسف أنه في كثير من الأحيان تكون شكوكنا في محلها.. وكأنما قدر للحدس الفطري في النفس البشرية أن تستشعر الخيبات والنوايا السيئة وتتوقعها من بعيد.
فكيف يمككنا أن نعبر شكوكنا بأقل خسائر ممكنة قبل أن تنال من جمالنا الداخلي وتوازننا الخارجي؟ هل نقترح المواجهة بما يراودنا من مخاوف والتصريح بها للمعنيين ووضع الأمر على طاولة النقاش والشفافية والحسم؟ أم من الأفضل أن نظل على صمتنا ونجتهد في البحث عن دليل إدانة ناجع يثبت لنا بما لا يدع مجالاً للشك أن ظنوننا ومشاعرنا السالبة كانت في محلها؟ علماً بأن الطريقة الثانية ستودي حتماً لنسف العلاقة الإنسانية القائمة أياً كان شكلها. بينما قد تتيح لنا الطريقة الأولى حفظ ما تبقى من ماء وجوهنا وتفسح المجال للطرف الآخر للتراجع عن ما يمضي فيه من خيانة إن وجدت.. فالشاهد أن النقاش الهادئ الموضوعي يوقظ الضمائر النائمة بينما تدفع الوسائل البوليسية الطرف المعني للتمرد وتثير حنقه وحفيظته فلا يعد يرى أبعد من تحت قدميه ويشعر برغبة عارمه في حماية نفسه ولو عن طريق الثورة ونسف كل القواعد وقطع كل الجسور.
لقد كان سمو الأمير (عبدالله الفيصل) من الحكمة بمكان حين بعث بتلك القصيدة المعاتبة لابنه حين بلغه عنه ما يسوءه.. ولكم أن تتخيلوا ما كان سيؤول إليه الحال لو أنه أرغى وأزبد وأسرع ثائراً ليعاقبه ويسمعه أغلظ الكلام! لابد وأن شرخاً كبيراً كان سيصيب تلك العلاقة، وكنا سنحرم بالمقابل من هذه الدرة الشعرية الفريدة.
إذن.. دعونا نواجه أحبابنا بمخاوفنا وظنوننا ونطلب منهم بكل احترام توضيح ما يجري ثم نمنح أنفسنا فرصة للتفكير والتدبر واتخاذ القرارات التي تتناسب مع مشاعرنا وكرامتنا.
دعونا نفتح قلوبنا لأصدقائنا وأقاربنا وزملائنا قبل أن توغر الظنون صدورنا وتأكل من أعصابنا وتطفو على سطك مشاعرنا وتصرفاتنا قبل أن نتأكد من صحتها.
دعونا نجلس إلى أزواجنا ونعلن لهم صراحةً عن شكوكنا وملاحظاتنا ونستمع لمبرراتهم وتفاصيلهم ثم نعرب لهم عن استيائنا ونخبرهم عن ما يجب أن يكونوا عليه أو ما نحن بصدده.. حينها سيكون من الأفضل لنا أن نلملم كرامتنا واحترامنا لذاتنا وتقديرنا لعشرتهم ونغادرهم بهدوء بدلاً عن إعلان الحرب التي لن تغير من الحقائق الماثلة شيئاً.. فلو كان للزوج على سبيل المثال علاقة أخرى ترتاب بها زوجته فسيان إن هي ثارت أو تعاملت بحكمه.. في الحالة الأولى ستفضح أمر نفسها وتهدر كرامتها.. وفي الثانية قد تنجح في حفظ ماء وجهها واتخاذ القرار الصائب وقلب المنضدة على الزوج الذي سيحرجه موقفها القوي الهادئ بينما يثيره غضبها العارم وتصرفاتها غير المسؤولة.. فاذا كان هو في كل الأحوال ماض في ما بدأوه فعلى الأقل لا تسمحي لثورة الشك بجعلك أضحوكة يتندر بها الناس وأولهم غريمتك المنتصرة.
تلويح:
تباً لك.. يا ظن يا شك!
[/JUSTIFY]إندياح – صحيفة اليوم التالي