الجامعة والأناقة والقيافة

[JUSTIFY]
الجامعة والأناقة والقيافة

أهم إنجاز صاحب دخولي جامعة الخرطوم هو عدد بنطلوناتي ارتفع من واحد لازمني طوال المرحلة الثانوية إلى ثلاثة، وعدد القمصان إلى ستة (سنة يا أنا، كما نقول في السودان عند التباهي والفشخرة)، وصرت أملك ثلاثة أزواج من الأحذية كان أحدها خطيرا بمعنى أن «مستواه» كان أعلى من مستوى الجامعة نفسها لأنه كان مصنوعا من الجلد وبـ«رباط»، وخذوا في الاعتبار أنني قضيت سنوات شبابي في كوستي الى اشتهرت بما يعرف بـ«مركوب الجزيرة»، وهو حذاء يصنع من جلد البهائم ويخاط باليد وليس فيه فردة يمين وأخرى شمال، بل تنتعل الفردتين كيفما اتفق والحكاية تطلع «صح»، وحذاء الجلد أبو رباط كان بعرق جبيني عندما عملت في إجازة صيفية بائعا في محل يتبع لشركة باتا الشهيرة وكان جميع أهل السودان تقريبا يلبسون أحذية باتا المصنوعة من أقمشة مقواة لأنها كانت زهيدة الثمن وجميلة الشكل، وجئت من كوستي إلى الخرطوم للالتحاق بالجامعة مزودا بتلك الكميات المهولة من الملبوسات ومعي مبلغ نقدي ضخم، فقد كان من عادة أهل السودان عموما تقديم ما يسمى بـ«حق الطريق» لكل من يسافر، ولأن الالتحاق بالجامعة كان يتطلب السفر، ولأن الجامعة شيء والمدرسة الثانوية شيء آخر فقد كان «حق الطريق» الذي تلقيته من أقاربي عند توديعي كبيرا، فمنهم من أعطاني خمسين قرشا، وهناك من أعطاني عشرة قروش ولا تنسوا أن 150 قرشا في ذلك الزمان (وهو ليس بالبعيد كما قد يتخيل البعض بسبب تدني قيمة الجنيه السوداني وارتفاع كلفة المعيشة حاليا في السودان) كانت تكفي لدفع مهر فتاة بكر، أخذا في الاعتبار أن مراسيم الزواج كانت خالية من الهبل والخبل الطويل والمستطيل والمتتالي الذي صار سمة الزواج في أيامنا هذه.
وأنا محمل بتشكيلة ملابسي الهوليوودية تلك ومعي «كاش تقيل» أي مبالغ نقدية متلتلة لا تقل عن ثلاثة جنيهات، فوجئت فور بدء الدراسة بأن لي لدى عمادة شؤون الطلاب مبلغ 13 جنيها مثل معظم طلاب وطالبات الجامعة الذين كانوا يتقاضون ما يسمى «البيرسري bursary» وهي الإعانة المالية، وكان ذلك المبلغ المهول بدل ملابس وبعدها كنا نتقاضى شهريا 150 قرشا من إدارة الجامعة، وكان معظمنا يتكتم على أمر تلك الإعانة حتى لا يخفض أهله مخصصاته الشهرية، وفور تسلم الـ13 جنيها كان عدد قمصاني قد ارتفع إلى ثمانية وبنطلوناتي إلى ستة، كما بادرت بتغيير فريم نظارتي الحكومية أم 150 قرشا بفريم محترم من محلات اليهودي السوداني موريس غولدنبيرغ الذي كان في مواجهة حديقة القصر الجمهوري، وحرصت أيضا على مواكبة العصر بشراء قلم حبر جاف بقرشين، وكنا في المرحلة الابتدائية نستخدم أعوادا خشبية تنتهي بأسنان نحاسية رفيعة نغمسها في الحبر، وبوصولنا المرحلتين المتوسطة الثانوية كانت أقلام التروبن القابلة للشحن بالحبر هي الموضة، وكانت الحكومة تعطينا نوعين من أقلام الرصاص أحدهما عادي وداكن، والثاني يسمى «ثري إتش 3H» وكان ذا سنة رفيعة ويستخدم فقط في رسم الأشكال الهندسية، وبوصولنا الجامعة كان اختراع الأقلام الجافة قد وصل السودان، وكنت بكل فخر من أوائل من اقتنوا تلك الأقلام من حر مالهم، ومن عجائب البيروقراطية في السودان أن استخدام قلم الحبر الجاف في الامتحانات الرسمية كان ممنوعا حتى بعد تخرجي في الجامعة وعملي بالتدريس، وربما كان مرد ذلك الجهل وسوء الظن بالمخترعات الحديثة بافتراض أن بداخل الأقلام الجافة مادة سرية مجهولة الهوية قد تساعد الطلاب على الغش.. لا أجد للأمر تفسيرا آخر.

[/JUSTIFY]

جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]

Exit mobile version