«أموت» وأدخل سويت روزانا

[JUSTIFY]
«أموت» وأدخل سويت روزانا

في مدرسة وادي سيدنا الثانوية ذات المباني الفخمة والحدائق الغناء والملاعب الخضراء، أحسسنا بأننا صرنا متحضرين ومتمدنين، فقد عرفنا الباسطة/ البقلاوة، وصرنا ننتقل داخل عاصمتنا بحافلات مرسيدس ذات مقاعد مريحة بينما كنا على عهدي الصبا والطفولة نضع القرش فوق القرش طوال عام كامل حتى يتسنى لنا ركوب الشاحنة التي نسميها في السودان «لوري» لبضع دقائق، بل شطحنا في بعض الأحيان وركبنا سيارات التاكسي، وكانت هناك تسعيرة معلومة للانتقال ما بين الخرطوم والخرطوم بحري وأم درمان، وكانت في كل من المدن الثلاث ساحة نظيفة خاصة بسيارات الأجرة تسمى المحطة الوسطى، تبدأ وتنتهي عندها رحلات التاكسي التي كانت تسمى «الطرَّاحة»، وكان التاكسي الطراحة يحمل خمسة ركاب من وإلى أي محطة وسطى، أما إذا كنت من علية القوم فكان بإمكانك أن تركب تاكسي «طلب»، أي لا يشاركك المشوار أحد وهنا أيضا كانت هناك تسعيرة متعارف عليها حسب المسافات التقريبية، ونسينا عصر «هي بتان جو إيقكا أر»، وهي عبارة نوبية تعني «يا ولد أمشي، جيب النار»، وكان من المألوف أن ترى الصبية في بلدتنا خارجين من بيوت الجيران وهم يحملون بعر الحمار أو أعوادا من الخشب وأطرافها مشتعلة كي تستخدمها أمهاتهم في إيقاد نار الطبخ، وبعر الحمار في حجم وشكل بيضة الدجاج، ويتألف من خيوط من العلف وبالتالي فهو أداة مضمونة لـ«استلاف» النار من الجيران.
وبعد أن أكملنا عامنا الثاني في المدرسة الثانوية صار لنا زملاء «سابقون» في جامعة الخرطوم، وصرنا نزورهم في مساكنهم الفندقية (حتى بمقاييس زماننا هذا)، ونتناول معهم وجبات، تكلف الواحدة منها نصف مصروف الجيب الشهري لطالب في المرحلة الثانوية، وكان من المعتاد جدا أن ننتقل بين مدن العاصمة السودانية الثلاث بالباصات (وكانت لها نقاط معلومة لبداية وانتهاء رحلاتها)، ثم التوجه إلى النقطة التي نريد كداري، وهي كلمة سودانية تعني «سيرا على الأقدام»، وأصلها «كُدُر» التي تعني حافر الحمار، واستخدمها السودانيون للتعبير عن قلة الحيلة التي تجعل الإنسان يقطع عدة كيلومترات مشيا على رجليه من باب «التفكُّه»، وكنت كلما مشيت كداري من المحطة الوسطى الخرطوم لزيارة زميل في جامعة الخرطوم عبر شارع الجمهورية نظرت على استحياء إلى محتويات محل أنيق يحمل اسم «سويت روزانا»، ولم أفكر في الدخول فيه لأنني لاحظت أنه حتى الناس الذين كانوا يدخلونه كانوا «سويت» من حيث الملبس والمظهر العام، ولكن حب الاستطلاع لمعرفة تلك الأشياء ذات الألوان الزاهية التي كانوا يتناولونها من أواني صغيرة أنيقة بملاعق فضية كاد يقتلني، لأنني أدركت بالغريزة أنهم يتناولون شيئا شهيا يكلف «الشيء الفلاني»، وكنت أردد بيني وبين نفسي ما كنت أردده سرا كلما مررت بمحلات الفاكهة الأنيقة (لم يكن مسموحا في أي مدينة سودانية فرش الفواكه والخضروات على أبسطة ممددة على الأرض): صبرا فإن موعدنا الجنة.
وكنا نحن القرويين بصفة عامة نتفادى دخول المحلات الموجودة في ما كان يعرف بالسوق الإفرنجي (لأن معظم التجار فيه كانوا من الأرمن والإغريق واليهود والطليان)، لأننا كنا نعرف أن بضائعها لا تخصنا، ولهذا كان طموحي متواضعا فيما يتعلق بذلك السوق: كان حلمي الوحيد أن أملك من المال ما يسمح لي بالجلوس في المقهى المسمى «أتينيه»، فقد كان يشبه المقاهي التي نراها في الأفلام الأمريكية وكنا نرى فيه ونحن نمر به ترانزيت شخصيات معروفة تنشر الصحف صورها، وآخرين حسني الهندام يتآنسون بأصوات خفيضة وأمامهم أواني تحوي أشياء كنا نحسبها (حتى عرفنا كنهها لاحقا) من فئة «ما لا عين رأت ولا أذن سمعت».

[/JUSTIFY]

جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]

Exit mobile version