من «سيئات» بعض أهل الأرياف أن يتنكروا لأصولهم فور الانتقال للعيش في المدن الكبيرة، فنسمع مثلا في السودان نحو ثلاثة ملايين شخص يزعمون أنهم من «أهل الخرطوم»، ولو دققت في الأمر لاكتشفت أن عدد من كانت الخرطوم مسقط رؤوس آبائهم بين الملايين الثلاثة لا يتعدى 300 ألف شخص، وكما قلت من قبل فقد كان نحو 99% من طلاب مدرسة وادي سيدنا الثانوية من الأرياف، وكان الالتحاق بالمدرسة الواقعة إلى الشمال من أم درمان أول عهدهم بالتعامل مع مدن كبيرة، ومن الطبيعي أننا في تلك المرحلة العمرية كنا نتباهى بأننا «خرطوميون»، وربما كان ذلك من قبيل ما يسمى في علم النفس «الإنكار denial»، أي أننا كنا نريد أن ننسى علاقتنا بالحمير والغنم ولمبات الجاز الأبيض والعقارب والجن (قلت لكم إنه كان في طرف كل حي في بلدتنا بدين خرابة أو شجيرات متشابكة يتخذها الجن مقرا لهم ومن ثم كنا نفرض على أنفسنا حظر التجوال منذ السابعة مساء وخاصة إذا استوجب الأمر المرور بالقرب من أحد مقرات الجن تلك)
كان ناظر مدرستي المتوسطة «البرقيق» قد أطلق علي اسم عموش لأنه لاحظ أنني أعاني من ضعف النظر، ولم تكن بجمهورية السودان الممتدة من مدار السرطان إلى مدار اليرقان سوى مستشفى واحد للعيون (في الخرطوم طبعا)، وفور التحاقي بالمدرسة الثانوية لاحظ المشرف على «داخليتنا» عمر حسن مدثر (الشهير بعمر «ماث» لأنه كان بارعا في تدريس الماثيماتيكس – الرياضيات)، أنني أعاني كثيرا عند قراءة الصحف اليومية التي كان يتم تثبيتها في لوحة إعلان في كل داخلية ونصحني بطلب التحويل إلى مستشفى العيون، وهكذا ذهبت إلى المستشفى وقرر الطبيب على الفور أنني بحاجة إلى نظارات طبية، هتفت في سري: ينصر دينك ويعمِّر بيتك، فقد كان لبس النظارات في ذلك الزمان ميسم وعلامة الثقافة والـ«في. آي. بي»، يعني الوزراء وأساتذة الجامعات والأثرياء والمشاهير من الأدباء إلخ
وعملا بلوائح وزارة التربية ذهبت بنتيجة الكشف الطبي لعيوني إلى شركة النظارات الأهلية، للحصول على نظارة بقيمة 150 قرشا على نفقة الدولة، ولحسن حظي كان يدير المحل نوبي اسمه عابدين، الذي حاول إكرامي بأن أحضر لي زجاجة كوكا كولا، ولكنني لم أكن قد نسيت تجربتي معها قبل نحو ست سنوات عندما انحشر لساني في فوهة الزجاجة، وتسلل المشروب إلى جيوبي الأنفية وأشعل فيها النيران، وعندما تعللت بأنني لا أشرب الكولا، أمر مساعده بأن يأتيني بسندويتش «كبدة»، وكانت تلك أول مرة في حياتي أتناول فيها سندويتشا، ورغم أنني تمنيت وأنا أقضم السندويتش لو كان طوله نصف متر على الأقل، إلا أنني ظللت «ممنونا» لعابدين لأنه من قام بتعريفي بعالم السندويتشات، والأهم من كل ذلك أن محل السندويتشات الذي كان يحمل اسم صاحبه «زكي» وهو للعلم أول سوداني استثمر في مجال زراعة الزهور والورود، كان يجاور شركة النظارات، وهكذا صرت كلما أتيت إلى الخرطوم في عطلة أسبوعية أمرُّ على محل السندويتشات، ووقعت في غرام سندويتشات «اللسان»، هناك من يقول «إخخخخي» عندما يسمع شخصا يتغزل بطعم اللسان المطبوخ، لكن صدقوني إنه من أشهى اللحوم، وأزيدكم من الشعر بيتا: إذا كنت تعاني من إمساك فعليك بلسان حسن السلق والتحمير. وسبحان الله! كبرنا وصارت عندي إمكانات مالية لشراء سندويتش ولو كان طوله مترا إلا ربع متر، ولكن ما أن طارت هوجة الفرح بالانتماء إلى المدينة حتى صارت السندويتشات والوجبات السريعة عموما أثقل الأشياء على قلبي، وفي ما يبدو فإن جعفر الريفي ما زال سيد الموقف ولا استسيغ أي طعام إلا وأنا جالس مرتديا ملابس البيت المريحة.
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]