كثيرة هي الأمثال الشعبية التي تجبرك على العراك معها لالتماس معناها إذ تجدها تتوسل المعنى المراد بعبارات ربما يصبح وصفها بالغبيّة نوعاً من المجاملة غير اللائقة.
تلك الأمثال تعرضت خلال سيرورتها بين الناس إلى عمليات سطو مهولة ومفجعة أطاحت بكلماتها وعباراتها الأصلية وأتت بأخرى (بديلة) بادعاءات تمدينها وتهذيبها وجعلها أكثر لياقة وقبولاً، لكن من فعلوا بها ذلك جاءوا بعبارات بديله تتوسل السجع والجرس الموسيقي أكثر من المعنى، فأودوا بكليهما وجعلوا الأمثال (قاعدة في السهلة ساي)، لا بلغت العربية وتكرست في محليتها الأفريقانية.
اطلعت قبل سنوات، ولا زلت احتفظ بنسخة تقارب بين الأمثال الأصلية والمحورة، نسخة تضم أكثر من سبعين مثلاً أهداني إياها دارس (حينها) من مركز الدراسات الأفريقية والآسيوية، تلك القائمة ألهمتني التأمل والتدبر في الأمثال الذائعة بحيثُ صرت أتعامل معها بحساسية مفرطة. تلك الحساسية جعلتني أقرض السياسيين الذين يتوسلونها في تصريحاتهم وخطابتهم فيما خلا (الصادق المهدي)، قروضاً غير حسنة.
ومن تلك القروض غير الحسنة، أن والي الخرطوم استعار في سياق مؤتمر حزبه بمحلية شرق النيل، المثل الشائع (الحشاش يملا شبكتو)، لعبر به عن جاهزية الوطني لخوض الانتخابات في موعدها والفوز بها، فبدا لي وكأنه طفف في المثل الذي يشترط قبل خوض (الصيد) أن تكون الشِباك مُتساويةً في (الحجم والعيون)، وأن تُغمر في مصائد بها نفس الوفرة.
ورغم إنني أرى في المثل الذي استعان به (الخضر) لتوصيف جاهزية حزبه مثلاً يفتقر إلى (التركيبة) الصحيحة لغوياً (بالمحكية أو الفصحى)، إذ ليس من المنطق أن يملأ (حشاش شبكة)، إذا كان الحشاش هنا هو المزارع، لذلك ظللت أتصور دائماً أن المثل الصحيح ربما هو (الصياد يملا شبكتو)، إذ أن الشبكة من أدوات صيد الأسماك، وليست ذات صلة بالزراعة على كل حال.
هذا علاوة على أن وصف الوطني بالحشاش فيه مبالغة، وإلا لحشّ مشروع الجزيرة وطوّر الزراعة وارتفع بالإنتاج ولما سمعنا بالتقاوى والأسمدة الفاسدة، وقضايا فساد الأقطان والأقماح وما إليهما، ولما لم ير بعض مصدري المواشي حرجاً في تحويل (الضان إلى خراف)، لذلك بدا لي أن المثل الصحيح في هذه الحالة كان ينبغي أن يكون (حشاش بدقنو)، يقابله في سياق الانتخابات المزمعة انعقادها دون توفر الشروط الموضوعية لها مثلاً آخر (محور وراثياً) مما ألقى به (الخضر) على مسامع الناخبين المُحتملين بشرق النيل، وهو (الغشاش يملا شبكتو)، وأظن أننا نحتاج بالفعل لنوع من الفلترة والتحوير الدقيقين كلما هممنا باستعارة مثل شعبي لتوصيف الراهن السياسي في البلاد.
الحصة الأولى – صحيفة اليوم التالي