رايح ليك وش ؟

[ALIGN=CENTER]رايح ليك وش ؟[/ALIGN] ينقسم الروحان إلى ثلاثة أقسام .. إما أن (تروح) انت في بت أم روحك وتضهب عن مقصدك .. ودي حكينا عنها كتير، أو أن تروح منك رايحة بأن تضيع منك أو تنسى المكان الذي تركتها فيه كما حكينا بالامس، أما ثالثة الروحات وأشدها وجعا فهي أن يروح منك زول كامل – خاصة إذا كان طفلا – ولا تتمكن من إيجاده !
لا شيء أشد ألما على النفس وأشد خطورة في النتائج من روحان الأطفال .. اذكر عندما كنا نلعب أمام البيت في طفولتنا، أن اقتربت منّا طفلة صغيرة – أقل من ثلاثة سنوات – وكانت تبكي بكاءا مريرا وتنادى على أمها، وقد اختلطت افرازات عيونها وانفها وفمها لتشكل شلال من السوائل اللزجة على وجهها ..
تحلّقنا حولها في فضول مشوب بالحنان وسألناها (أمك وينّه؟) لكنها لم تتوقف عن البكاء المزعور .. تجمع الأطفال حولنا على شمار (الشافعة الرايحة) وجاءت بضعة من نسوة الحي المارات بالطريق وحاولن إسكاتها وسؤالها عن مكان أهلها، ولكن دون أن تجازف واحدة منهن بحملها أو إحتضانها، لأن الطفلة والتي يبدو أن روحتها طالت، قد (فعلتها) على نفسها مما زاد عدد المجتمعين حولها بتوافد الذباب وهجومه على ملابسها الداخلية المنتفخة بما تحمل ..
ظل الحال على ما هو عليه إلى أن اجتذب صوت الضجة (أمي) فمدت رأسها للشارع لتطمئن علينا، وعندما علمت بقصة الطفلة سارعت لحملها وإدخالها إلى البيت .. أجلستها على (طش) وقامت بتحميمها ولفتها بملاءة وتخيرت لها من ملابسنا (لبسة) تلائم حجمها وألبستها لها ثم وضعتها على السرير .. كل هذه الخطوات تمت تحت متابعة شمارنا التقيل، وبعد نظافة الطفلة واطعامها هدأت وبدأت في الضحك واللعب معنا حتى راودنا أمنا عليها:
عليك الله يمة خليها لينا عشان نلعب بيها !
ولكن يا لفرحتنا الما تمت، فقد حضر مجموعة من الناس مع سيدة تبكي بحرقة يسألون عن (شافعة رايحة)، فكان أن دلاهم الشفع لبيتنا وكان اللقاء بين الطفلة وأمها مؤثرا اندى عيون الجميع، خاصة بعد أن علمنا أنهم يقيمون في حي بعيد وأن الطفلة تاهت بعد أن خرجت مع اخوتها للشارع، فضلت الطريق وظلت تمشي على قدميها لساعات قبل أن تلم فيها أمي وتمسح معاناتها ودموعها ..
أسوأ إحساس يمكن أن تعيشه (أم) هو عندما يضيع منها صغيرها، وهذا ما عشته للحظات بسيطة، حين حسبت أن (الريان) قد ضاعت مني داخل مجمع تجاري في هامبورغ، فعندما إلتفت ولم أجدها .. أصابني الرعب لإدراكي بخطورة ضياع طفلة في بلد غريب اللسان والمجاهل والمظان، فصرت أجري كالمجنونة وأنادي عليها حتى سمعتها تناديني من الخلف: (أنا ياهوندي يا ماما) فساحت ركبي وإنهرت على الأرض وأنا أحتضنها وأصرخ عليها في نفس الوقت )تاني أوعك تزحي من جنبي).
تقع اللائمة دائما على الكبار عندما (يروح) الصغار ويتهموا بالتقصير في رعايتهم، خاصة إذا كان السبب في ضياع الطفل هو إهمال أمه وقلبها المقدود، فقد لفتني خبر أوردته (حكايات) ضمن القضايا القديمة عن أم نسيت طفلتها على الأرض بجوار الجزار وحملت قفتها وذهبت .. هذه الأم برأي تستحق أن يمن عليها بلقب (جوجوي قلب السخلة) والتي يقال أنها خرجت بصحبة صغيرها في مشوار وهي تمسك بيده في يدها، وكان أن نسته حيث ذهبت وعادت لبيتها وطوال الطريق تحدث قلبها:
يا ربي أنا كنتا شايلة شنو في يدي ونسيتو ؟!
وقد كانت لنا زمااان .. زمن صبانا مع نسيان العيال والعودة للبيت من دونهم حكاية طريفة، فقد جاءت لزيارتنا ابنة خالتنا الصغيرة حوالي الخمس سنوات – في صحبة أمها، فتعلقنا بها وطلبنا من أمها أن تتركها عندنا لنتونس معها لأنهم يقيموا في منطقة بعيدة والزيارات بيننا متباعدة ..
طوال فترة وجود الشافعة معنا كنا نمارس عليها تدريبات الأمومة، فقد كنا نتبارى على تحميمها حتى خافت عليها أمي من أن (تنبري) .. أما عن التسريح فحدث ولا حرج فقد قلعنا صمغة دماغها من كثرة تمليسها بالفرشاة، ولكن بما أن أمومتنا كانت أمومة مزيفة فقد كنا ننساها دائما، كما حدث عندما كنا مجتمعات في الغرفة نتكابس جميعا نحن الستة بنات – على المرايا ونتهيأ للخروج لمناسبة (سد مال) بت الجيران، بينما الصغيرة (بسمة) تداقس تحت الأرجل، ومن الاستعجال واللهوجة طفينا النور وغادرنا الغرفة وتركنا المسكينة وحدها، ولكن سرعان ما انتبهنا وعدنا إليها فوجدنا عينيها الواسعتين تبرقان في الظلام كـ الكديس، نهرناها أمامنا وانطلقنا لبيت (سد المال) ولكن عندما انفض السامر وغادرت سيرة أهل العريس عدنا للبيت .. خلعنا ملابس الخروج وتمددنا على أسرّتنا نتبادل شمارات وقطيعة السهرة، وفجأة صرخنا جميعا بصوت واحد:
بسمة !!
فقد اكتشفنا بأننا قد نسيناها في بيت العرس .. أسرعنا بالعودة إليها فوجدنا المسكينة تجلس وسط صفوف الكراسي الخالية وحيدة تتلفت، فزجرناها والأحرى أن نزجر أنفسنا:
بسمة يا غبيانة .. ما رجعتي معانا ملك؟ .. مإ شفتينا وكت مشينا البيت ؟!!

لطائف – صحيفة حكايات
munasalman2@yahoo.com

Exit mobile version