كل شيء في مدرسة وادي سيدنا الثانوية كان مرتبا ومنسقا، وعلى درجة عالية من الأناقة والقيافة، ما عدا رؤوس الطلاب، ففي تلك المرحلة تعامل معظمنا مع «الحلاق» لأول مرة، وقبلها كما أسلفت في مقالات سابقة في هذه السلسلة، كان كبار العائلة يجزون شعر رؤوسنا كل يوم جمعة بأمواس من عهد عاد وإرم ذات العماد، لحرمان القمل من مراكز التوالد والتناسل والتكاثر، وكان حلاق المدرسة رجلا متقدما في العمر، و«بدون مبالغة» كان ينام واقفا وهو يقص شعر هذا أو ذاك بعد أن يتكئ بيده على الكرسي الذي يجلس فيه الضحية، ورغم أنه ظل حلاق المدرسة لنحو ربع قرن، فإنني لم التق بخريج واحد من تلك المدرسة يعرف اسمه الحقيقي، فلأنه كان يقص الشعر زي ما تجي، تجي.. الشعر في النصف الأيمن من راسك طوله بوصة وفي النصف الأيسر طوله مليمتر أو ربما «زيرو»، فقد كان الطلاب يسمونه «بشتنه» من بشتن يبشتن أي بهدل يبهدل أي كلفت يكلفت، ولكن العين بصيرة واليد قصيرة فعم بشتنة كان يتقاضى قرشين على «الرأس» الواحد، بينما كان قص الشعر في صالونات المدينة يكلف عشرة قروش، وطبعا كان هناك خيار الحلاق الطائر، وهو الحلاق الذي يحمل عدّته ويتجول باحثا عن زبون فإذا وجد أحدهم أجلسه في ظل شجرة أو حائط، ويجلس الزبون حاملا مرآة صغيرة في يده، ويحدث غالبا أن ينتزع الحلاق المرآة من يد الزبون وينطلق جاريا لأن مفتشي الصحة التابعين للبلدية رصدوه، وإذا ألقوا عليه القبض فالحكاية فيها غرامة، ولهذا كان الحلاق الطائر يضع مع الزبون خطة «ب» قبل الشروع في الحلاقة: إذا داهمنا جماعة البلدية، لا تهرب لأنهم ليسوا مهتمين بأمرك، وانتظر ابتعادهم وقابلني أمام «دكان حاج مصطفى». وطبعا كانت هناك قفزة استطعامية بدخولنا المدرسة الثانوية، فقد صرنا نأكل خبرا من نوع راقٍ، وصارت الوجبات منوعة، بل كان بالمدرسة «كانتين» أي متجر صغير تستطيع ان تشتري منه بعض السلع الارستقراطية مثل البسكويت والعسل، وكان من التقاليد الثابتة في كل المدارس التي بها سكن داخلي أن يكون هناك مدرس مناوب يتفقد نوعية الطعام ثم يجلس على أي مائدة مع مجموعة من الطلاب ليتناول من نفس الطعام المقدم لهم، وأذكر أن التاريخ أكمل دورة وصرت مدرسا في مدرسة «التجارة الثانوية» في الخرطوم، وضابطا للداخلية فيها مسئولا عن مراقبة الطعام وتناول الوجبات مع الطلاب، ولاحظت ذات مرة أن المتعهد الذي يورد المواد الغذائية أتى بخبز بائس الشكل وصغير الحجم فوقفت في وسط قاعة الطعام وقلت للطلاب: اتركوا القاعة فورا ولا تلمسوا هذا الطعام، وبكل سرور لبوا النداء، وكتبت تقريرا إلى مدير المدرسة (أبوبكر سكوري) حول رداءة الخبز وفي اليوم التالي جاء المتعهد وشرع في الموال المعتاد: جماعة المخابز ما عندهم ضمائر لكن يا ويلهم مني.. قلت له: يا ويلك مني.. أنت مطالب برد قيمة عشاء نحو مائتي طالب، وكاد الرجل أن يصاب بجلطة، ولكنني ركبت راسي واستعنت بمحاسب المدرسة لتحديد تلك القيمة ثم فرضت عليه أن يقدم لكل طالب قطعة باسطة (بقلاوة) في الوجبات الثلاث في اليوم التالي، وصرت كلما دخلت قاعة الطعام يصيح الطلاب: يا أستاذ عايزين إضراب عن الطعام (لسوء حظ الملاحيس لم يتلاعب المتعهد قط في توريد الطعام وضاعت على طلابي فرصة باسطة/ بقلاوة بابا كوستا اليوناني الشهيرة).
[/JUSTIFY]جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]