“خرجت من منزلي بملابس النوم واختبأت في مزرعة قريبة من قيادة الجيش الشعبي، تعرضنا لمطاردة شرسة من الجيش اليوغندي، ووقعنا في كمين قبل وصولنا إلى (بور)، قوات سلفاكير نفذت مجازر مروعة أبادت فيها عدداً كبيراً من أبناء النوير).
القوس أعلاه، كان مثابة مقدمة مهولة وفاجعة للحلقة الثانية من الحوار الرائع الذي أجراه رئيس التحرير الأستاذ “مزمل أبو القاسم” مع نائب رئيس جنوب السودان السابق “رياك مشار” في أديس أبابا. الحوار جدير بالتأمل من جهة أنه لخص بدقة شديدة ما آلت إليه الأوضاع في الدولة المجاورة، وأعطى صورة (زنكوغرافية) شديدة الوضوح للصراع الدائر هناك، ومن يقرأ ما بين تضاعيف إجابات “مشار” لا يعييه الوصول إلى ملخص الصراع.
صحيح أن مشار نفى بشدة أن يكون الصراع في أصله قبليا، لكنه اعترف أنه اتخذ هذا المسار لاحقاً بفعل المجازر المروعة التي ارتكبتها قوات سلفاكير المدعومة من الرئيس الأوغندي “موسيفيني” والتي أبادت عدداً كبيراً من أبناء النوير، بحسب مشار، الذي أعلن في ختام الحزء الثاني من الحوار رغبة فصيله في تطبيق نظام حكم فيدرالي يستوعب كل الثقافات ويحتوي التعددية العرقية ويحمي التنوع الديني، وانتقد إصرار سلفاكير على تطبيق النظام المركزي.
إذاً ماذا يعني ذلك؟.. ذلك يعني أن الجنوب ربما يتجه إلى التفكك إلى كنتونات قبلية (في دويلات) ضعيفة وفقيرة، فالمشكل القبلي رغم اتفاقي مع ما ذهب إليه مشار، في أنه لم يكن أس الحرب المدمرة الأخيرة، لكن جميع الأطراف المتنازعة في الجنوب خاصة الطرفين الرئيسيين استغلا القبيلة.
“مشار” يجد نفسه منساقاً إلى القبيلة، بينما هو ينفيها عن الصراع، ألم يقل (إن قوات سلفاكير نفذت مجازر مروعة أبادت فيها عدداً كبيراً من أبناء النوير)، إذاً من هو الذي أجج الحرب وحقن مفاصلها بالقبيلة، أليسوا هم ذات قادة الحركة الشعبية ومجلس تحريرها الذين ظلوا يدعون ليل نهار بأنهم ديمقراطيون يريدون نظاماً أكثر إنسانية ومدنية، يعتمد على الكفاءات والخبرات.!؟
بالطبع، لست أنا الذي يشمت، لأن ما لدينا هنا لا يقل مأساوية عما لديهم، لكنني بصدد تفنيد ما جاء به “مشار” من حجج ضعيفة ومبررات واهية ليثبت للعالم أن سلفا ومجموعته يستغلون القبيلة في الصراع وأنه برئ من ذلك، لذلك أحاول فقط إسقاط نقطة ضوء على شخصيته حتى يراه الناس تماماً كخصمه “سلفا”، عدوان مبينان للإنسان وللحرية والديمقراطية، محض طالبا سلطة حتى لو كانت على جماجم أشلاء ودماء المواطنين الأبرياء الذين وعدوهم بأنهم سيقيمون لهم جنة الله على الأرض فيما لو صوتوا للاستقلال.
هذه هي صورة الجنوب التي أهداها لنا “مشار” في حواره سالف الإشارة، صورة قاتمة لحكام ظلاميين وأنانيين، فـ”مشار” ليس بأفضل من خصمه، والحركة الشعبية التي حققت حلم الجنوبيين في مرحلة الثورة، ليست كفؤ بحكم هذا الشعب العظيم، لذلك فإن عليها (ولن تفعل)، أن تفكك نفسها إلى أحزاب مدنية، وأن تحول جيشها إلى قوات نظامية منضبطة، وأن تبتدر انتخابات نزيهة حرة، وأن تطيح بالفاسدين من قادتها الكبار.
[/JUSTIFY]الحصة الأولى – صحيفة اليوم التالي