الانتقال إلى المرحلة المتوسطة لم يكن يعني بالنسبة لأبناء وبنات جيلي ذوي الأصول الريفية، فقط أكل الرغيف الخالي من الملوثات ثلاث مرات يوميا، ولا تناول الطعام ونحن جلوس على كراسٍ حول مائدة، ولا الدراسة في غرف أرضياتها مغطاة ببلاط جميل، بل عَنَى أشياء أخرى، فقد انتقلنا إلى عوالم أخرى: مثلا كانت كرة القدم «يا دوب» قد عرفت طريقها إلى بلدتنا «بدين»، فإذا بنا نفاجأ في مدرسة البرقيق المتوسطة بوجود ملعب مستطيل الشكل، وأصغر حجما من ملعب كرة القدم، وفي نقطة المنتصف من عرض المستطيل في كل جانب، عمود خشبي عال، ينتهي بسبورة، لم نفهم ما الغرض منها، وكيف يتسنى للمدرسين الوصول إليها بدون استخدام سلالم للكتابة عليها، وحتى بافتراض وجود سلالم، لم نكن نفهم جدوى وضع سبورة على ارتفاع نحو 4 أو 5 أمتار، بينما عيون التلاميذ محدودة الإمكانات، فبسبب الحر الفظيع في منطقة النوبة السودانية، فإن النوبي يولد وعيونه كما نقول في السودان «كاشّه» أي منكمشة لامتصاص قوة أشعة الشمس او منع تسللها إلى كل أجزاء العين، ثم انتبهنا إلى أن على تلك السبورة قرصا معدنيا مستديرا، وبعد استفسارات على استحياء عرفنا أن ذلك المستطيل وما به من عمودين وسبورتين ملعب باسكت، وعرفنا أن القرص المستدير بالتحديد هو الباسكت، وشاءت إرادة الله أن تكون كلمة باسكت هي ثاني كلمة إنجليزية يتعلمها أي سوداني في ذلك الزمان بعد كلمة «بوك» التي تعني «كتاب»، وعرفنا أن باسكت تعني قفة/ سلة/ سبت، ولكننا ازددنا حيرة: كيف يسمون ذلك القرص المدور الأجوف باسكت وهو بلا حواف أو قعر/ قاع.
وبعد بدء الدراسة بأيام سمحوا بالنشاط الرياضي، ورأينا قدامى التلاميذ يلعبون الباسكت، وشيئا فشيئا فهمنا بعض قواعد اللعبة، ثم رأينا لعبة الفولي بول (الكرة الطائرة)، وبالمناسبة لم نعرف أن الباسكت تسمى كرة السلة وأن الفولي بول تسمى الكرة الطائرة إلا بعد سنوات من مغادرتنا مقاعد الدراسة، فقد كانت كل مصطلحات الرياضة المعروفة متداولة فقط بمسمياتها الإنجليزية، لأن مناهج معظم المواد التي درسناها حتى بعد فترة طويلة من خروج الاستعمار الإنجليزي من السودان كانت من وضع تربويين بريطانيين عاشوا في السودان طويلا، وأسسوا معاهد لتدريب المعلمين وألحقوا بها مدارس لتجريب المناهج وبعد تجريب طويل وتنقيح وتعديل كان يتم طرح المناهج على جميع المدارس ولهذا اتسمت المقررات الدراسية بالاستقرار، وهكذا كان ممكنا توريث الخبرات للأجيال الجديدة من المدرسين، لأن من يمضي نحو 14 سنة في مجال التدريس يكون قد عجن وخبز المناهج وعرف طرق تدريسها، لأن كل كتاب كان مصحوبا بدليل يشرح للمدرس طرق الشرح والتدريس.
والشاهد هو أنه حتى «الجمباز» الذي صار يسمى لاحقا «تربية بدنية» ثم لم يعد له وجود في المناهج، كان حصة رسمية نتدرب خلالها على تقوية عضلات الذراعين والصدر والساقين، والبطن و…. كل التوجيهات بالإنجليزية: ستريتش يور آرمز.. مد ذراعيك، واليوم صارت كلمة ستريتش تعني نوعا من القماش يلتصق بالجلد، وهناك فتيات يرتدين بنطلونات ستريتش، فتحسب القماش جزءا من جلد الردفين والفخذين والساقين من فرط التصاقه بتلك المناطق، وعشنا وشفنا شباب رجال يرتدون بنطلونات جينز مبتلة (عمدا)، وعلمنا أن الواحد منهم يغمس البنطلون في ماء مخلوط بالصابون ثم يرتديه لأنه ما لم يفعل ذلك فلن يستطيع خلعه إلا بمساعدة جراح في المسالك البولية أو اختصاصي توليد (وطبعا عيب أن يذهب شاب الى «القايني» وهو اسم الدلع لأمراض النساء) لخلع بنطلون تحت تخدير موضعي.
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]