ما من إقليم في السودان المعاصر إلا وبه تنظيم عسكري يطالب بقسمة السلطة والثروة، وقسمة السلطة أمرها سهل لأن الحكومة تأتي بكذا شخص من هذا التنظيم أو ذاك وتسند إليه منصبا بلا صلاحيات مثل مساعد رئيس الجمهورية أو وزارة الإعلام (وليس لوزير الإعلام كلمة حتى في وسائل الإعلام الحكومية)، ولكن المشكلة في قسمة الثروة، لأن حاصل قسمة صفر على صفر يساوي صفرا أو عدة أصفار غير مسنودة بأي رقم على اليمين أو على الشمال، لأنك لا تستطيع تقسيم شيء غير موجود، وكان الوضع معكوسا بالنسبة لي بمجرد دخولي المدرسة المتوسطة والإقامة في حرم المدرسة بعيدا عن العائلة، فقد تطلّب ذلك منحي نصيبا ثابتا من الثروة يتراوح ما بين خمسة وعشرة قروش أسبوعيا، وكانت تلك طفرة طبقية جعلتني برجوازيا، فقد كان سوق البرقيق ينعقد كل يوم أربعاء، ورأينا فيه صنوفا من الفاكهة كنا نعتقد أنها لا توجد إلا في الجنة التي وُعِد بها المتقون، ولم نكن من الغباء بحيث نهدر ثرواتنا الطائلة في الفواكه رغم اشتهائنا لها، ولو أراد بعضنا شراء فاكهة كان ذلك يتم بـ «المشاركة»: مثلا كل اثنين يشتريان برتقالة واحدة، ولكن تقاسم المنقة (المانجو) كان ينتهي في معظم الأحوال بمعارك يدوية لأن تقسيم حبة المنقة الواحدة بالتساوي أمر صعب للغاية.
ولأنه كان لابد من ترشيد الإنفاق كي لا تنفد مصاريفنا الأسبوعية قبل يوم الخميس، كان معظمنا يتفادى الفواكه نهائيا، وكنا أحيانا نتسلل إلى بساتين الجوافة والبرتقال البعيدة عن المدرسة (البرقيق نشأت أصلا حول مشروع زراعي عملاق وكان أهل المنطقة يسمونها الكمبو – وهي كلمة إيطالية تعني المعسكر فقد أقام المهندسون الذين أسسوا المشروع في كمبو ضخم ومن هنا جاءت التسمية).. المهم كنا نتسلل الى تلك البساتين ونسرق منها ما تستطيع جيوبنا حمله من الفاكهة، وكنت شخصيا مولعا بثلاثة أشياء: الطحنية (غيرنا يسميها حلاوة الطحينية) وحلوى اللكوم (وغيرنا يسميها راحة الحلقوم) والعسل أبو أسدين (ما زال موجودا وهو من إنتاج شركة تيت آند لايل الإنجليزية)، وإلى يومنا هذا فتلك الأشياء من أحب الأكلات إلى نفسي، وأضفت إليها لاحقا «سمسمية المولد»، وهكذا كنت أنتظر يوم السوق (الأربعاء) لأشتري طحنية بقرش كامل، وبالنسبة لـ «اللكوم» كان لابد من شريك لأن ثمن العلبة التي بها نحو 12 قطعة كان ثلاثة قروش، فنتقاسم الثمن والقطع، ثم تأتي مرحلة الخلاف حول حصة كل شريك من السكر الناعم (البودرة) الذي تحويه كل علبة.
أما عسل الأسدين فكنت أحرص على شرائه فقط وأنا متجه إلى بيتنا في عطلة نهاية الأسبوع ليشاركني إخوتي متعة أكله وبالطبع كنت أشتري معه الرغيف من كرمة.. ولا أذكر قط أنني دخلت على أهل بيتي حتى وأنا تلميذ بيد «فاضية»، يعني كان لازم وحتما أوفِّر بعض القريشات لأشتري لإخوتي الصغار شيئا يحبونه، ولازمتني تلك العادة بعد أن صرت أبا، فلم يحدث قط بعد أن صار لي أطفال أن دخلت عليهم بعد انتهاء ساعات العمل إلا وأنا أحمل آيسكريم أو حلوى مصاصة او بسكويت محشو بشيء ما.. ربما أفعل ذلك كي لا يعيشوا محرومين من طيبات العصر الذي يعيشون فيه كما عشت أنا خارج عصري حتى دخلت المرحلة الثانوية.
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]