استحق (دفع الله) لقب شيخ المكشكشين دون منازع .. كان منذ صباه الباكر متفوقا على أقرانه دراسيا ودروشيا، حتى ساقه التفوق لدخول إحدى كليات الهندسة التقنية، ولكن رغم ذكاءه وسرعة استيابه للدروس إلا أنه كان في حالة هيمان دائم .. يعاني من قلة التركيز في إدراك تفاصيل الأشياء، وسير الحياة من حوله .
لا يستطع أحد أن يجزم بالسبب في إلتصاق لقب (دفع الله المزنزن) به، فهناك من خبثاء المدينة من عزا السبب لأنه (قاعد يلفها) فـ (تزنزن) بعقله وتذهب بتركيزه، واستندلوا في زعمهم هذا على حالة كونه دائما (فاطي سطر) وغير مهتم بمتابعة ما يجري حوله، أما من يعرفونه حقا فينفون عنه تهمة (اللفة) ويرجعون اللقب لـ (الزين) بطل رواية الطيب صالح (عرس الزين)، وذلك لما بينهما من تشابة في الصفات ..
ظل محافظا على موقع الصدارة في التفوق و(الزنزنةً) حتى تخرجه من الجامعة، ولكن طيبة قلبه ونقاء سريرته تحالفت مع كشكشته، لتصنعا منه زول مسكين وما عندو (شدايد)، تعينه على مكابسة غابة الحياة العملية وصراع الجبابرة في الخدمة المدنية، كما لم تشفع له شهاداته، فقد ظل قابعا في أسفل السلم الوظيفي في إحدى المؤسسات التقنية لسنوات تلتها سنوات تاني دون أن يترقى درجة..
كذلك لم يفكر في الزواج، ولم تفكر في اصطياده واحدة من البنات اللاتي عرفهن منذ صباه، وحتى وقوفه على تخوم (البورة) بعد أن تجاوز الأربعين ..
بالإضافة لـ الكشكشة كان (دفع الله) يمتاز بالكثير من الخصال الجميلة، فهو خدوم متافني في خدمة الآخرين، لم يخذل أهل الحلة في ساعة (الحوبة) أبدا .. ففي الخريف عندما تتراكم مياه الأمطار في طرقاتها، لا ينشط غيره في التشمر لفتح المجاري فتراه خائضا في الطين لـ (الركب) يتابع تسليك مجاري الحي وخيرانه، وفي أفراح الحلة لن يقلق أحد ويشيل الهم من (بيتان القوى) أو مكابسة الحلل بعد نهاية الحفلة، وما ذاك إلا لأن (دفع الله) دائما ما يتكفل بتسليم كل معزوم صحن الكوكتيل في بطن إيدو ..
ومن لبكيات الحلة غيره ؟ فهو من يقوم بسقاية العائدون بالعنقريب من المقابر بأكواب الليمون والكركدي البارد، ويظل طوال أيام الفراش واقفا على تقديم الشاي والقهوه والماء البارد للمعزين ..
كان يواظب على الحضور للمكتب يوميا طوال سنوات دون أن يفكر يوما في أخذ إجازته السنوية، فتراكمت إجازاته مما دفع رئيسه في العمل لإستدعائه وفرض عليه كتابة طلب الإجازة فرضا .. مرت أيام الإجازة في ملل رتابة حتى جاء صباح اليوم الذي كان يتمشى فيه (دفع الله) في طرقات الحلة دون هدف، فصادف مجموعة من رجال الحي يهمون بالدخول إلى منزل قريبه (بابكر ودالصادق) ..
أسرع الخطى حتى لحق بهم ودخل معهم قبل أن يغلق الباب، جلس مع الضيوف وانهمك في الونسة والنقاش الذي تشعب بالمجموعة خاصة بعد وصول كمية أخرى من رجال الحي الذين تحلقوا جميعا حول سرير كان يرقد عليه (ود الصادق) ..
غادرت المجموعة الأولى وتبعتها مجموعات دون أن يفكر (دفع الله) في المغادرة بعد أن إستلم الدفة وصار يتكفل بالمساسقة بين الصالون والمطبخ لتقديم الضيافة من بارد وحار حتى جاء وقت الغداء فتكفل بإحضار صواني الطعام وتوفير الأباريق لغسل الأيدي بعد الأكل، وظل قائما على خدمة الضيوف الذين توافدوا لمعاودة (بابكر ود الصادق) بعد تشخيص حالته بالفشل الكلوي في الخرطوم بعد أن فشل طبيب المنطقة في تفسير سبب اصابته الدائمة بالغثيان والفتور والضعف ..
قبيل المغرب قام (دفع الله) بوداع آخر الضيوف وإضطر لأن يغادر بعده لأن (ود الصادق) قد استغرق في النوم ..
وهكذا داوم (دفع الله) لأكثر من أسبوع على الحضور لمنزل (بابكر ود الصادق) بعد شرابه لشاي الصباح مباشرة، ويظل جالسا بجوار سريره يقرأ معه الصحف ويتابع معه (نشرة عشرة) من الراديو الصغير الموضوع بالقرب من الفراش، وكلما حضرت مجموعة من الضيوق (تب) واقفا لخدمتهم .. بارد وحار وصواني أكل حتى يحين المساء فيغادر لبيته كالعادة ..
في اليوم العاشر حضر (دفع الله) وإلقى بالتحية على (بابكر) المضجع على جنبه، ثم جلس على كرسي وسحب إحدى الصحف وبدأ في مطالعتها، عندما وقف بباب الصالون حاج (النعمان) وحيّا ابن شقيقه المريض بصوت عالي:
كيف أصبحتا يا بابكر؟ ان شاء شديت حيلك واتخايرتا شوية ؟
قبل أن يفكر (بابكر) في الرد على عمه، انتفض (دفع الله) وأزاح الصحيفة جانبا وسأل في إنزعاج:
هو مالو ؟!! يبقى كويس من شنو ؟!!
وقبل أيضا أن يفكر حاج (النعمان) المخلوع في الرد عليه، إلتفت بوجهه ثم نظر لـ (بابكر) وسأله في إشفاق:
مالك يا زول ؟ أوع تكون عيّان ؟!! ليه ياخ ما قلتا لي ؟!! تصدق .. والله العظيم ما كنتا عارفك !!
لطائف – صحيفة حكايات
munasalman2@yahoo.com