كانت الألعاب التي كنا نمارسها على عهد الصبا والطفولة في بدين تقوم كلها على المجهود الجسماني، بمعنى أنه لم تكن هناك أدوات لعب نتسلى بها ونحن جلوس أو نقوم بحركات محدودة كما يفعل أطفالنا، وبعبارة أخرى كنّا «خشنين»، فإذا كان جيل اليوم يقضي الساعات الطوال في العمل في مزارع الانترنت الافتراضية، فقد كان جيلنا يمارس الزراعة الحقيقية، فما أن يتجاوز الطفل النوبي السابعة حتى يصبح مطالبا بالإسهام في نشاط ما في حقل والده، وحقيقة الأمر هي أن جميع السودانيين إما من أصول رعوية أو زراعية، لأن جميع أجدادنا كانوا إما رعاة أو فلاحين، بل كانت مناهج المرحلة الابتدائية تتضمن «حصة فلاحة»، فقد كان فرض عين على كل مدرسة أن تكون بها حديقة كبيرة في واجهتها، وكان جميع المعلمين يخضعون لدورات تدريبية في الزراعة في معهد «بخت الرضا» التربوي العملاق، وكنا في حصص الفلاحة نعزق الأرض ونزرع مختلف المحاصيل في أحواض صغيرة، ولكن المحصول الإجباري في كل المدارس كان زهرة عباد الشمس التي كانت تعطي وهجا خاصا لأفنية المدارس، وكان الحرص على تلك الزهرة أن الحبر الذي نستخدمه في الكتابة كان يستخلص من بذورها، فعندما تصبح البذور ناشفة وتغمرها بالمياه تعطيك حبرا داكنا، وتحقق كل مدرسة الاكتفاء الذاتي من الحبر، وكنت ترى فرّاش المدرسة في كل صباح يحمل (جردلا) مملوءا بالحبر ويطوف به في غرف الدراسة لملء محبرة كل تلميذ، وكانت المحبرة وعاء صغيرا من الحديد بطلاء أبيض يوضع في حفرة دائرية في الركن الأيمن من طاولة كل تلميذ.
لم يكن بإمكاننا اللعب نهارا ما عدا السيجة (حفر نسيت عددها تملأ بالحجارة وتصطاد حجارة (كلاب) الخصم بنفس طريقة الشطرنج)، والـ«تور» الذي هو بعر الإبل الجاف ويتطلب التقاط البعر مهارات خاصة، لأن الصيف عندنا يعطيك الانطباع بأنك تقيم في أرض مفروشة بالحديد وتحتها نار الله الموقدة، والهواء الذي يهب عليك كأنه يأتي من أفران تعمل بالطاقة النووية فيلسع ويسلخ جلدك، ومن ثم كنا نلعب عصرا وفي أول المساء، ونبدأ بالـ«الدكي» فننقسم إلى فريقين وكل لاعب يقفز على رجل واحدة، بينما يقبض على رجله الأخرى بيده بقوة ويندفع نحو «الميس» الذي هو المرمى، ومهمة كل لاعب ان يلقي باللاعب الخصم أرضا أو ينزع يده من رجله ومن يصل «الميس» يكسب (اللعبة معرفة في أنحاء أخرى من السودان بمسمى «شدّت وحرّينا»)، وبعد حلول الظلام نلعب «الكود»، بعد أن ننقسم إلى فريقين، ويقوم أحد اللاعبين بإلقاء قطعة عظم كبيرة بعيدا في الظلام، ومهمة كل لاعب ان يعثر على العظم ويجري به إلى نقطة النهاية ويساعده أعضاء الفريق في تضليل الخصم بتمثيل دور من عثر على العظم، ثم الجري في اتجاهات مختلفة لتشتيت الانتباه حتى يتسنى لمن عثر على العظم المنشود ان يصل «الميس» من دون ان يتعرض للاعتراض، ويا ما – وفي الظلام الدامس – خطف بعضنا بعر الحمير، وهناك من جاس بيده في الرمل وتعرض للسعة عقرب، وصرخ وحسبه الآخرون قد عثر على العظم فهجموا عليه وهو يواصل الصراخ، وقد يجدها العقرب فرصة لتوزيع سمومه على لاعبين أو ثلاثة آخرين.
وكان هناك الـ«مور» وهي المصارعة: تتشابك الأيدي حول الظهور وتستخدم الأرجل لإفقاد الخصم توازنه، ومن يسقط أرضا أولا يخسر، وقد يسقط اللاعبان وتكون النتيجة التعادل، وكان هناك ما يسمى الـ«كُرِي» وتعني السوط، يحمل خلالها أحدهم جريدة نخل وينهال بها على ظهر آخر، ولو صرخ الآخر: يا يمه.. أو تألم بصوت مسموع صار مضحكة، وبعدها يتولى من كان مضروبا الضرب.. وهذا العبط ما زال موجودا بين الكبار في بعض مناطق السودان باسم «البطان»، ويكون خلال حفلات الأعراس ليثبت الشباب أمام الفتيات الحاقدات أنهم قمة في المرجلة، ووصفت البنات بالحاقدات لأنهن يطلقن الزغاريد كلما انهال سوط على ظهر رجل و«عمل فيها» صاحبنا أن جسمه (ستينلس استيل).
[/JUSTIFY]
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]