قلت إن الغرض من هذه السلسلة من المقالات هو تسجيل ذكرياتي كشخص وُلِد في عصر البخار وأواني الفخار وصار اليوم يملك آيفون آخر موديل.. شخص مازال يتذكر أول مرة شرب فيها كوكا كولا فكادت روحه أن تخرج من مناخيره لأن الكوكا السخيفة تسللت إلى أنفه فأشعلت فيه حريقا من النوع الذي نسميه في السودان «كاروشة»، ثم سبحان الله لم تنزل نقطة أي مشروب من فئة الكولا في بطنه منذ نحو 15عاما، حتى لو كنت ضيفا للمرة الأولى في بيت ما وقدموا لي الكولا فإنني أرفض تناولها بكل أدب وحزم، لأنني لا أرى سببا لتناول مشروب يسبب لي حموضة فاضطر إلى شراء إينو الفوار أو أي قرص دوائي لتخفيف حدقتها بمبلغ يفوق قيمة المشروب عدة مرات لأن مضادات الحموضة لا تباع بالقطعة، فهناك أشياء لا أجامل فيها: مثلا دخلت بيتا كضيف للمرة الأولى ووجدت على شاشة التلفزيون في غرفة الجلوس فاروق الفيشاوي!! بدون تردد أقول لصاحب البيت: يا أنا يا الفيشاوي في بيتك، ولو قال إنه مسلسل حلو وإنه يتابعه بانتظام فإنني أغادر بيته فورا ولا أزوره و«لا يزورني» إطلاقا، لأنني أعتقد أنه ليس من الوارد أن يكون شخص عاقل وراشد معجبا بالفيشاوي، ويلي الفيشاوي في قائمة الممنوعات عندي «الفشفاش» الذي هو رئة البهيمة التي يسميها المصريون الفِشة بكسر الفاء ويقولون إن الشخص قليل البخت (سيء الحظ) يلاقي العظم في الفشة، ولا أعرف كيف يستسيغ إنسان بكامل قواه العقلية ومهما بلغ به الجوع طعم شيء مطاطي ولزج وقبيح المظهر والمخبر، وبعدهما تأتي الكوسا ولو سمعت شخصا يقول «نفسي في محشي كوسا» فإنني أقول له: الله يسد نفسك، وتأكد لي أنني على حق في سوء ظني بالكوسا عندما عرفت أن المصريين يسمون الأمور الملتوية والمحسوبية «كوسا»
وتوقفت طويلا عند أطايب الطعام التي تناولتها في زيارتي لأبي في كوستي، وكيف أنني أسرفت في تناولها لأنني كنت أعرف أنني عائد عند انتهاء الإجازة إلى بدين حيث أشهى الأكلات هي التركين (عصارة صغار السمك المشبع بالملح).. الوجبات في بدين كانت رتيبة، خضروات في خضروات وأحيانا «فتة لبن»، ولم نكن نملك خبزا لإعداد الفتة بل كنا نستخدم لإعدادها فطيرة القمح الرفيعة التي نسميها «أنجاويد»، وعرف بها أهل البنادر وصاروا يجففونها ثم يدلعونها باسم «رقاق»، ومن أغرب الأشياء أننا في تلك البيئة التي لا تعرف غير الزراعة لم نكن نعرف شيئا اسمه سلطة/ سلاطة الخضروات، رغم أن أهلنا كانوا يزرعون جميع مكونات السلطة (لم أر الجزر أو اسمع به إلا بعد انتقالي إلى الخرطوم)، وكانت كسرة الذرة المعجونة مع قطع الطماطم والبصل وعليها بعض الزيت والشمار (الكمون) تشكل أحيانا وجبة كاملة، وتخيل مقدار دهشتي عندما اكتشفت أن أهل الخرطوم يشترون الجرجير بـ«فلوس» بينما كنا نحن نطعمه للبهائم، ومن فرط استخفاف النوبيين بالجرجير فإنهم يسمون مقن أور (ريح/ الكلب)، وفي ثاني مرة أركب فيها طائرة كان الطعام المقدم لنا يتألف من كفتة لحم وحولها شيء يشبه «الكلاوي» الصغيرة، وعرفت لاحقا أن اسمه المشروم، وهو نبتة طفيلية تنمو في بلدتنا في الحقول ولم نكن نعرف لها قيمة وإلى يومنا هذا اعتقد ان المشروم لا يختلف عن الفشفاش، فهو شيء لزج بلا طعم، وربما سر نفوري منه أن أهلي النوبيين يسمونه كجن قور أي علف الحمير.
[/JUSTIFY]
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]