وتبقى الخرطوم هي المعيار الذي نقيس عليه حجم تفاصيلنا وأبعادها.. نسقط عليها ملاحظاتنا وأمنياتنا.. نصب عليها جام غضبنا وحنقنا واستنكارنا..
وكلما تذكرت أنها ليست كل السودان.. وأنها لا تعدو كونها مدينة تعيسة شاء حظها العاثر أن تكون العاصمة قفزت الأسئلة المنطقية إلى ذهني..
كيف هم إذا هناك؟.. كيف هم ونحن ـ العاصميين (الحضاريين) ـ نموت ألف مرة كل يوم من الهم والحزن والتردي البيئي والأخلاقي ونقص الاحتياجات الإنسانية وسوء الخدمة المدنية وشح الإمكانيات وانعدام الخدمات وتكلس الساسة على الكراسي وتصريحاتهم الساذجة وصبرنا القسري؟!!
* كيف هم وأنا أطالع كل صباح في باب (من طرف الحبيب) مناشدات حول المياه والكهرباء والأزمات الصحية والحاجة الماسة لبعض العناية والاهتمام وتحمل المسؤولية وتوفير الحد الأدنى من الإنسانية لأولئك الناس البسطاء القانعين الذين لم تدفعهم أوهامهم العريضة ـ ولا أقول أحلامهم ـ للنزوح نحو العاصمة؟!!!
* إننا في كثير من الأحيان نظل نكتب عن واقع ولائي محدود.. ينغلق على ذاته داخل الخرطوم المتنامية المترامية الحزينة والمنتهكة.. ولكن خيالنا المحدود يحتاج أن يكسر القيود ليكتب عن الأصقاع حيث الفقر الذي لا ندرك حقيقته والمرض الذي لا يفهم في الأساس على أنه مرض.. فقط ابتلاء من الله يلزم الرضا والقبول.
وحيث لا تعليم ولا رفاهية ولا متعة ولا تطور ولا حتى حياة!! وتبقى القضية الأساسية.. فيم تجدي كتاباتنا الولائية أو الاتحادية..؟ أي ساكن تحرك وأي واقع تغير؟.. وهل المعضلة معضلة إمكانيات أم فهم؟ أم دوافع وطنية صادقة أم ضمائر حية أم إحساس فعلي بالمسؤولية؟
وهل المشكلة الحقيقية فينا كمواطنين أم في المسؤولين أم في الوضع الاقتصادي؟
* (ما تقولوا لي مافي قروش)!!!.. فأنا أراها كل يوم في جنبات الخرطوم.. في بناياتها الشاهقة بين ليلة وضحاها.. وفي مطاعمها الفخمة المكتظة.. وفي السيارات الفارهة التي تجوب الشوارع.. وفي التقاليع الغريبة والماركات العالمية التي يستخدمها الشباب.. فمن أين لهم هذا؟.. وأين العدالة الاجتماعية والإخاء الإسلامي والتراحم والتعاون؟.. أم أنها شعارات والسلام؟
بربكم.. ما لم يكن بالإمكان رفع البلاء وتحسين الأوضاع وإنقاذ الناس.. فليس أقل من الكف عن إطلاق التصريحات التي أصابت غالبية الصحفيين بالجلطة وارتفاع ضغط الدم والسكر.. وتسببت في إصابة الناس بالشلل الرعاش والإحباط والاكتئاب وداء الهجرة!!!.
كفوا عنا ألسنتكم.. ولا تفترضوا فينا السذاجة كوننا منهمكين في الركض وراء لقمة العيش.. لتتعدونا بعالم جميل ومزيد من الانفتاح والافتتاح والانبثاق والتأصيل والتمكين والتحليق والتحديات والرغد والسعادة!!
لا تقدموا لنا وعد من لا يملك.. لمن يستحق ولا يعرف سبب التأخر مستحقاته.. فالشاهد أن هناك سوء تخطيط وتوظيف وأولويات وحتى سوء طالع.
هناك سوء اختيار وسوء اعتبار وسوءات من الفساد مكشوفة على الشارع ولا تنكرها العين إلا من عمى.
وإنني أقترح أن تظل أحزاننا ولائية.. وأن يركز كل أصحاب ولاية في الحزن على طريقتهم الخاصة.. فعسانا ننجح في ترقية معاني الحزن والإحساس بها وتطويرها.. ولا شك أن حزن ولاية الخرطوم سيكون أكبر.. ولكنه سيكون باهتا ومزيفا ودموعه فاسدة.. وسيعمد البعض لاستغلاله بحيث يحقق مصالحهم الشخصية.. وربما نسمع قريباعن وزارة ولائية للحزن والإحباط والغبينة.. شريطة أن تكون بالمقابل هناك وزارة للتقصير والفساد والإهمال.
* تلويح:
ولايتي العزيزة الخرطوم.. كفي عن الترامي والتباكي والانفتاح والتردي.. (فقلبي الصغير لا يتحمل)!!
إندياح – صحيفة اليوم التالي