ووصلنا الخرطوم بحري.. يا ما أنت كريم يا رب.. إيه دا؟ شنو دا؟ شوارع مستقيمة وعلى حوافها أشجار، والعجب العجاب سيارات صغيرة بأعداد كبيرة ولم أكن قبلها قد رأيت سيارة صالون، لا بالعين المجردة ولا بالمايكروسكوب، ولا حتى في السينما، لأنني لم أكن قد شاهدت فيلما سينمائيا قط، ولكن أكثر ما ضايقني هو أن كلام أهلي عن أن سكان الخرطوم مايصين ولايصين كان صحيحا، ويقصدون بذلك أن اخلاقهم بايظة ثبت عندي بالرؤية، فقد كان المئات يتحركون في كل الاتجاهات وهم يرتدون البنطلونات، وكان ارتداء البنطلون في نظر أهل الريف في معظم أرياف السودان دليل ميوعة وخلاعة وتفسخ أخلاقي (ما زال في منطقة الخليج عائلات تحرِّم على أولادها الراشدين لبس البنطلون من نفس المنطلق)، بل يا للعار كانت بعض بنات الخرطوم يعلك ويلوك اللبان علنا في الشارع، وكان هذا في ثقافتنا الريفية دليلا على أنهن منحرفات وجانحات.
وقضيت بضع ساعات في منزل عمنا يعقوب صالح وعمتي شريفة كمبال رحمهما الله في حي الدناقلة جنوب في الخرطوم بحري، وعرضوا علي الاستحمام، ونجحت في فتح الدش: يا الله… ماء كثيف ونظيف ينزل على جسمك في خطوط مستقيمة تشبه الشعيرية، وصحت في سري: يعني لو كانوا اخترعوا الموبايل أبو كاميرا كنت صورت نفسي وأنا استحم لأعرض الصورة على أمي لاحقا كي ترى الفرق بين طريقها البدائية القاسية في غسل جسمي وشعري بصب الماء بالكوز، وأنا أتوسط الطشت، وتهري جلدي وتقشره بالصابون الذي كنا نسميه حبوبة فاطنة (بعض السودانيين ينطقون فاطمة بالميم بدلا من النون) والحبوبة هي الجدة أو الحبابة في بعض اللهجات الخليجية، وكان الماء ينثال على جسمي بلا لون ولا رائحة ثم ينسال من جسمي وقد اكتسي لونا ما بين البني والبنفسجي.. بسبب «متأخرات وبواقي» أوساخ متراكمة عبر السنين، لم يقدر عليها صابون أمي الذي كنت أخضع للتعذيب به مرة واحدة في الأسبوع، وسئل شخص عن سبب نفوره من الماء رغم أن رائحة جسمه تزكم الأنوف فقال: لو كان الماء يزيل الرائحة الكريهة لما كان السمك من أعفن مخلوقات الله رغم أنه يقضي كل عمره في الماء، وربما كان ذلك الشخص على حق فقد كنا نسبح في النيل عدة مرات في الأسبوع، ولكن ما ان نخرج منه حتى يتحول لون بشرتنا الكالح أصلا إلى شيء عجيب، ربما بسبب تراكم الطمي عليه.
المهم قضيت في الحمام وقتا طويلا حتى أشفق علي أهل البيت ونقروا على بابه يسألون: أنت كويس؟ أنت بخير؟ فأكدت لهم أنني أسبح في الخيرات، ولكنني أحسست بالحرج لطول بقائي تحت الدش، وحزنت لأنهم قطعوا علي المتعة، فخرجت من الحمام وقلت: خيرها في غيرها، وبعد كذا ساعة قالوا لي استعد للذهاب الى محطة السكة الحديد في الخرطوم قبلي (هكذا كان اسم عاصمتنا فالخرطوم بحري تعني الخرطوم شمال, والخرطوم قبلي تعني الخرطوم جنوب.. تذكرت الآن كيف كنا نضحك عندما يقول الراديو: والآن أغنية للمطرب بابكر ود السافل، ولم نكن وقتها نعرف أن «السافل» هو الشمال، وأن «الصعيد» هو الجنوب في لغة بعض قبائل وسط السودان النيلية).. المهم حان موعد الذهاب الى محطة القطار، للتوجه الى مدينة كوستي فدخلت الحمام مرة أخرى واستمتعت بالدش لدقائق ثم ركبت سيارة تاكسي.. إيه الهنا دا؟ سبحان الذي سخر لنا هذا وكنت من قبل أتمنى لو أمتلك حمارا فور ويل مثل حمار العمدة، وحسبت والتاكسي يتهادى في الشوارع أن كل الناس تنظر إلى ذلك الصبي المعجزة سليل العز الذي يجلس على كرسي وثير ويداه على حقيبة مصنوعة من معدن الصفيح لو عطس بالقرب منها شخص مصاب بنزلة برد جامدة لتفكك اللحام الذي يثبت أركانها وطار قفلها، وتمنيت لو واصلت السفر بالتاكسي إلى كوستي ولكننا وصلنا محطة القطار، وقلت: ألا كل شيء ما خلا الله باطل / وكل نعيم لا محالة زائل.
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]