د. محمد بدوي مصطفى
أفلس بنك السودان بمنشور منه … “المرة ما بتقول عمرها”!! (2)
نعم، أفلس البنك المركزي وأفلست معه صناديق توفير الخُلق القويم وحسابات الصدق والأمانة الجارية بمصارف النفوس، فمن أين لنا أن نقترض أو نستلف سندات العفة وحوالات الأمانة التي كانت تزايل أهل السودان كظلها؟ يتحدثون عن الصحوة الدينية والمجتمعية ومع هذه الصحوة أو بالأحرى الغفوة انتشرت تيارات التعصب والتحزب الديني التي طفقت من الأرض كما يطفق منها الفطر الطفيلي بشتى أنواعه. جعلت بعض الجماعات الأصولية السلام شعارا لها، لكن لم تأت بالسلام المزعوم، فكانت الحرب شعارا لها وكان الاقتتال والتمثيل بالآخرين رمز من رموزها، وموضتهم في الخطاب السياسي أو الديني نجدها في خطب الجمعة وأيام الأعياد، فإلى أين نسير؟ ضاع إرث السودان التسامحي في ثوب الطرق الصوفية وغدا مسمارا بين كماشات التعصب الإسلامويّ. يا إلاهي، صاروا يدخلون إلى الأضرحة وإلى حلقات الذكر في الموالد النبوية الشريفة بالعصي والأسلحة البيضاء مما لم نعهده في تاريخ السودان. ما هذا؟ وهم يظنون أنهم يحسنون صنعا؟!
أفلس البنك المركزي وأفلست معه خزائن القلوب فجمحت أن تجود بالخير واللطف على العباد. أفلس وبلغت ديون السودان إلى أربعينات أو خمسينات المليارات ولن يعفي نادي باريس (55 دولة ممولة) السودان من ديونه هذه إذ أن أمريكا له بالمرصاد. كيف يعقل أن نسمع من السادة المسؤولين قولا ضالا: أن ديون السودان في طريقها إلى الإعفاء، علما بأن أمريكا وحدها لا تقرّ بالإعفاء فأمر هذه الدول شورى واجماع بينها، وحتى لو وافقت الدول الممولة وكان بعضها لبعض ظهيرا فلن ترضى أمريكا بذلك لأنها وضعت السودان على قائمة الدول الراعية للإرهاب. فستظل الديون قابعة على عنق المواطن السوداني البسيط إلى ما شاء الله.
عندما أتى هؤلاء كانت الديون بأقصى تقدير 15 مليار دولار وصارت الآن – الله أعلم – 40 مليار، 50 أو 60 فكلاهما سيان، إذ أن هذه الديون في طريقها للتفاقم وأقسم بعزة البلد أنها سوف تضرب في قائمة المئة مليار إن سارت الحال على هذا المنوال، وربنا يستر! من جهة أخرى كان ينبغي على الحكومة بعد أن در لها النفط بمليارات الدولارات أن تخفف من وطأة الديون وتقللها رويدا رويدا كما تفعل كل الدول الواعية اقتصاديا، لكن لأسباب عدة لم تستطع، لماذا؟ فسلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون! بالإضافة لهذا السيل العرم من الديون ينبغي علينا أن نستذكر ونذكر بأن العديد من المشروعات المدعومة من الحكومات الصديقة كتركيا والصين واليابان وغيرها كلها قروض محسوبة على ميزانية الدولة، فكيف الخلاص من هذا الشرك يا سادة؟
نعم أفلس بنك السودان إذ بلغ عجز الميزان التجاري لأول مرة في تاريخ السودان أكثر من 6 مليار دولار وصادرات السودان أقل من وارداته بستة مليار دولار. ونسبة التضخم بحسب احصاءات الحكومة بلغت درجة 45% وهو أكثر من ذلك، فالنقود صارت ورق والأسعار سوف تواصل ارتفاعها الأهوج يوما تلو الآخر، والجحيم سوف يزداد أجيجا والفقر على أبواب قُرانا القابعة في انتظار أن تحل رحمة السماء. يأكلون النمل والحشرات في مناطق واسعة النطاق بدارفور وكردفان والمجاعة على الأبواب والله المستعان. نعم أفلس بنك السودان فآل شأن البلد إلى مرحلة من التردي الاقتصادي لم يحدث في تاريخها البتة، فبنك النقد الدولي وحكومة المجموعة الأوربية تحذر من تفاقم الأزمة أكثر وأكثر إن لم تُتخذ الخطوات الناجعة للخروج من هذه العزلة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تشهدها البلاد.
نعم أفلس بنك السودان ولو لم يفلس لكان على وزير المالية أن يعطي الخبر اليقين عن خزينة الدولة أمام البرلمان، نعم أمام المشرعين الذين ينوبون عن كل فرد في كل بقاع السودان. وحينما سئل الوزير عن مقدار احتياطي النقد الأجنبي السائل بالبنك المركزي فأجاب: “المرة ما بتقول عمرها.” نعم القول، حقيقي أن “المرة ما بتقول عمرها” وأكتفي بالقول!!
بقلم: د. محمد بدوي مصطفى
[email]mohamed@badawi.de[/email]
(صحيفة الخرطوم)