د. محمد بدوي مصطفى
تجليات: أفلس بنك السودان بمنشور منه
حظر تمويل العربات والبكاسي بكافة أنواعها (…)
حظر تمويل الأراضي والعقارات ويشمل ذلك شراء الأراضي وتطوير الأراضي وشراء وتشييد المباني وشراء الشقق (…)
يسري العمل بهذا المنشور اعتبارا من تاريخه وعلى المصارف تعميمه على كافة فروعها العاملة. (الإمضاء)” (نهاية الاقتباس).
ماذا ألمّ بالبلد يا سادتي؟ ماذا دهانا؟ وهل نحن في آخر الزمان؟ فلم يفتأ الشعب أن ينفض عن جلبابه المهترئ غبار اختلاس الأمس حتى تخرج إليه في غده وقبل أن يرتد إليه طرفه أخريات! والمثير في الأمر أن بعض الصحف الموالية للمؤتمر الوطني تروج لبعض الحوادث، لماذا؟ هل هناك مؤامرات داخلية بين أفراد الحزب الواحد؟
إن النتيجة الأخيرة التي يمكن أن يصل إليها أي فرد منّا انطلاقا من معطيات الوضع الحالي من جهة، وبعد تفحص ودراسة وتمعن المنشور المذكور أعلاه من جهة أخرى، هي إفلاس الخزينة العامة للدولة بجدارة والكتاب بائن من عنوانه! هل تستطيع الخزينة في غضون الشهور المقبلة أن تؤدي واجباتها تجاه الموظفين والعاملين بمؤسساتها؟ وهل تقدر على توفير المواد الغذائية للشعب بالعملات الصعبة التي يفتقد إليها البنك المركزي في محنته الحالية؟ على أي مضامين تنطوي رسالة المنشور أعلاه؟ فعندما تُجبر كل البنوك أن توصد أبواب القروض من دون العملاء وقبل أن تُعطى كل الأطراف المعنية مهلة لتدبير أمرها، شهر أو شهرين أو ثلاثة، فماذا تعني هذه الرسالة بربكم؟ دعونا نطرح التساؤلات الآتية:
هل ينبغي لكل البنوك أن تسكر أبوابها؟ لأن القروض التي منعها بنك السودان من تاريخ نشر المنشور تعتبر من المعاملات الأساسية في جلب الزرق لها إن لم تكن شريان الوريد المؤدي إلى القلب وعمودها الفقري في البقاء والارتقاء والتوسع. والقرار واضح ها هنا وسوف نرى البنوك تتساقط كالنمل واحد تلو الآخر والذين لهم أرصدة بها عليهم توخي الحذر الشديد! ومن جهة أخرى ماذا ينبغي أن يفعل المواطن المسكين والعامل الكادح الذي اقترن بعقود تمويل مع بعض البنوك ليؤمن مستقبله بشراء أدوات ومعدات وكيف يخرجونه من محنته هذه؟ وماذا عن التزاماته تجاه الجهة التي يشتري منها الأدوات والمعدات؟ أيقول لها: لقد أفلست وبقيت على الحديدة؟ وكل هذه التساؤلات تقودنا إلى تساؤل آخر هام، ألا وهو: من أين لبنك السودان بالمال والمال في حوزة من نهبوه “عينك يا تاجر”؟ وكأننا يا سادتي بصحبة حبوباتنا في الزمن الجميل ندندن ونتغنى بأغنية مأثورة يعرفها الكل، هي بسيطة في محتواها بيد أنها تتضمن رسالة تربوية هامة: “النوم النوم، النوم النوم، أبوي سافر لي مكة، خلى ليّ حتّة كعكة، والكعكة جوه الدولاب، والدولاب ما ليهو مفتاح والمفتاح عند النجار والنجار عايز عروس والعروس عند السلطان والسلطان عايز فلوس (إلخ).” ماذا جنى الشعب من سياسة التمكين التي أرجعت عجلة التاريخ إلى قرون وسطى إن لم تكن قرون الجاهلية الأولى؟ وماذا حصد أرباب الأسر في أمدرمان ودارفور والنيل الأبيض والشمالية من شعارات حفظناها عن ظهر قلب: “ناكل مما نزرع ونلبس مما نصنع”؟ هل تحققت الرؤى وأصابت تلك الشعارات أهدافها الرامية؟ هل نجحت الاستراتيجيات العديدة، خمسية منها وعشرية وعشرينية؟ وهل أفلحت مضامين انطبع صداها في ذاكرتنا الغبشاء بمداد النسيان في كلم أجوف أصم ينادي بصحوة بعد غفوة وبنهضة بعد ركود وبوثبة بعد وقفة؟ هل يعزى كل ذلك إلى التخبط والاخفاق المريع في اتخاذ القرارات السياسية الرصينة التي تُعنى ببلد كان ينادى بين الأمم ذات يوم وبكل فخر ب “سلّة العالم للغذاء”!؟ هل رجعت بنا مهرة الزمن الجافلة إلى القرون الوسطى الأوربية وإلى عصر الاقطاعيين والاسياد والأمراء والملل الملكية وعهد الأشراف؟ هل تحول بلد المليون ميل الذي بُتر شرعا من خلاف إلى اقطاعية يمتلكها بعض الوجهاء؟ يديرونها كيف يشاؤون كدمية صماء بكماء في أياد أطيفال في ألعابهم يعمهون؟ أوهبهم الله مفاتح الملك كما وهبها لقارون، وأن مفاتحهم ينوء بحملها ذوو العصبة أولو القوة؟
لماذا أفلس بنك السودان المركزي؟ أبسبب الاحتقانات السياسية الضروس التي أدت بدورها إلى احتقانات اجتماعية واسعة المدى وكانت نتيجتها الحتمية تهتك أواصر الانسجة المجتمعية التي يمكن أن تشابه في هيكلها وخلقتها أنسجة الجسد الواحد أو أغلب الظن أسنان المشط الواحد كما جاء في سيرة المصطفى عليه السلام. ماذا يعني كل ذلك؟ أن تتهالك وتموت خلايا وأنسجة الجسد، الواحدة تلو الأخرى، كما يهلك ويتهالك الجنود البواسل في ساحات الوغى؟ بمعنى آخر، أن تتلاشى خلايا “سودان الجسد الواحد” وتنقرض ومعها دون أدنى شك كل القيم والمثل العليا وإرث الجدود. كانت خلايا سودان الجسد الواحد للأسف وحتى قبل هذه المحن، التي ضربت على أرضه وتدا وخيمة، تعيش بنبض واحد وتتغذى من دم واحد وتكافح لهدف واحد: رفعة السودان! فلم يبق منها إلى الشتات ولله ما أعطى ولله ما أخذ!
لقد بسطت الأزمة الاقتصادية أعطافها على كل البلد لتزمله بالفقر وذلك منذ أكثر من عقدين ونيف من الزمان. فتحت ذراعيها وأياديها الغبشاء لتضم كل فرد من أهل السودان ومن ثمة تحكم بقبضتها على قلبه القابع في غرفة الانعاش المكثف فتهمُّ لا تلوي على شيء إلا وتدوسه وتطأه وطأ حتى تخرّ قواه فينادى حينئذ ب”رجل أفريقيا المريض”، بعد أن كان سلوتها وسلتها للغذاء. نعم، بسط الفقر بساطا يمتد حتى الأفق ليجلس أكثر من 70% من أهلنا الكرام عليه. وحسب احصائيات بنك النقد الدولي أن أكثر من خمسين بالمئة تعيش تحت خط الفقر والعوذ والنسبة لعمري أكثر من ذلك بمراحل. والمؤشر الاقتصادي لخط الفقر يقول: أن هذه النسبة العالية من بين أهل السودان لا تملك قوت يومها الذي يبلغ في النهار بضع جنيهات عجاف وبالأحرى 12 جنيها (دولار ونصف). هل يعقل هذا في بلاد يزملها النيل بسلسبيل الجنان وتصرخ في صحاريها الممتدة آثار مروي؟
لنسأل أنفسنا: أين ذهبت مليارات الذهب بلونيه الربانيين، الأسود والأصفر؟ والسؤال لا يحتاج إلى إجابة، فالفساد المستشري والذي أوردته الصحف الموالية للنظام في غضون الأيام الماضية عن ملازم في سن الطفولة وعن رجل بلغ من العمر أرذله، كله واضح؛ كيف يجرؤ وكيل وزارة العدل – لنضع خط تحت كلمة عدل – أن يستولي على أمانة في عنقه حينما أوكل بمهام مديرية الأراضي؟ وكيف يجرؤ مساعدو الوالي من أن يغترفوا من كأس دهاق دون أن يلحظ ذلك أحد؟ ألم يروا بنيانهم الشامخ وعزهم الفاسخ ومظهرهم الماسخ؟ ألم تنتابهم ريبة أو شك بشأنهم؟ أليس في البلاد مراجع عام يسهر على مال الوطن؟ أليس هناك محاسبيين في الوزارات يمكنهم كشف المغطى وفضح المندس؟ أين “مجلس العبارات” (عفوا أقصد مجلس الشعب) الذي لم يتسن لأحد من افراد الشعب أن يجلس في قبابه الفارهة، أيرقد كل نائب (بلا حجة) على صفحتيه وينعم بطراوة التكييف في قاعات البرلمان دون أن يحرك ساكن؟ أليسوا هم نواب الشعب المحكوم عليه بالبلاء؟ ألا يقبضون مرتبات شهرية خصصت فقط لرعاية شؤونه؟ أين دفع الله حسب الرسول ورفاقه الكرام؟ أيكتفون بتحريم الحفلات والتظاهرات، وتكفير سفاسف الأمور من هذا وذاك أو تحريم قضايا انسانية ككرة النساء؟ يناضلون من أجل تحليل زيجة الطفلة وذبحها بأمواس الختان، بأي حق؟ دعهم يجلسون باسم الشعب على كراسي الجلوس الوثيرة وتحت نسائم التكييف والتراطيب ودع الشعب ينتظر في رمضاء النهار وهجير عبوس حتى يأتي الله بالخبر اليقين.
نعم أفلس بنك السودان ولو لم يفلس لكان على وزير المالية أن يعطي الخبر اليقين عن خزينة الدولة أمام البرلمان، نعم أمام المشرعين الذين ينوبون عن كل فرد في كل بقاع السودان. عندما سئل الوزير عن مقدار احتياطي النقد الأجنبي السائل بالبنك المركزي فأجاب: “المرة ما بتقول عمرها.” نِعم القول، حقيقي أن “المرة ما بتقول عمرها” وأكتفي بالقول!!
تجليات:
أفلس بنك السودان بمنشور منه … “المرة ما بتقول عمرها”!! (1)
بقلم: د. محمد بدوي مصطفى
[email]mohamed@badawi.de[/email]
(صحيفة الخرطوم)