ويجب أن نذّكر هاهنا أنه رغم الوعود التي تضمنتها بنود المعاهدة بحفظ حقوق المسلمين والعرب في كل مجالات الحياة كما تسرد الرواية فلم تكفل المعاهدة عندما طُبّقت البنود التي تشترط حفظ كرامة المسلمين (أو الموريسك العرب) وصون عرضهم، فنكّل بهم القتشاليون تنكيلا، إذ بدأت حمالات التفتيش على كل من وما ينتمى للعرب أو يشبههم، فحرّموا عليهم الكلام باللسان العربيّ ومن ثمة أحرقت المكتبات العامة والخاصة على مرأى ومسمع من الخلق، ثمّ ارغمت الغالبية العظمي على الدخول إلى المسيحية بل وتغيير أسمائهم العربية وحتى الألقاب (اسم العائلة)، وبعد ذلك نفوا حرمة يوم الجمعة كيوم مقدس عندهم، ومنعوا دفن الموتى على الطريقة الإسلامية ومنعت الاجتماعات ومجالس العلم التي تفقه الناس في لغتهم ودينهم وحتى الأفراح العربية والحناء والطهور كلها صارت مع مرور الأيام محرمّة وممقوتة يعاقب عليها القانون بالقتل أو الحرق.
لكن من أغرب الأشياء التي ذكرتها عاشور في الرواية في هذا الصدد ذاك أن المعلمين في المدارس صاروا ينزعون سراويل الطلاب ليروا ما تحتها، أمطهر أم أغلف! وجاءت بعد ذلك مرارة المراسيم الملكيّة القاضية بالترحيل إلى المغرب العربي (المغرب، تونس والجزائر). لقد استمرت فترة التفتيش هذه عشرات السنين وكانت تتسرب الأخبار بما تحمله القوانين الجديدة من اجحاف وظلم على المسلمين رويدا رويدا ويوما تلو الأخر فكان مسلمو الأندلس يتناقلونها من قرية إلى قرية ومن واد إلى آخر فيعم الخوف وينتشر الزعر والهلع بينهم. فما كان من بعضهم إلا أن نزلوا عن رغبة القشتاليين ورحلوا إلى بلاد المغرب العربي. لقد بيع العرب وأبناءهم وذويهم في الأسواق كالعبيد وصارت بناتهم يمتهن أرزل المهن وغدت املاكهم تحت رحمة الملك، فمن له دار أو مزرعة إما اقتلعت منه أو صار عبدا يحرث ويزرع تحت رحمة الأمراء والاقطاعيين والملك. وكل ما تصنعه أياد العرب، يذهب أغلبه للملك والأمراء: المحصول الزراعي، الماشية، الدواجن، وحتى الغزل الذي يغزلنه النساء في دورهنّ ارغمن على أن يقتسمنه مع الحكام القشتاليين الذين انفردوا بحظ الأسد فيه.
فهكذا الدنيا، من سرّة زمن ساءته أزمان، والملك لله.
صحيفة الخرطوم
د. محمد بدوي