* هناك أناس يعيشون للمستقبل!.. فيصبح طموحهم (ميكانزم) حياتهم.. وأحلامهم وقودها. وهناك آخرون لا يملكون شيئا سوى حاضرهم.. ولا ينظرون أبعد من تحت قدميهم.. لا يقلقهم أمر المستقبل ولا يبكون على حائط الماضي.. وبين هؤلاء وأولئك تجد فئة ثالثة نصفها يعيش على الماضي ونصفها الآخر (يعتاش) من ورائه!.. فالذي يعيش على الماضي هو في الغالب إنسان لم يحقق شيئاً مما تمناه فظل على ولائه لزمن الأحلام الوردية, يرى أن أمس ـ دائما ـ أفضل من اليوم ولا يستطيع تغيير هذه الفكرة الرجعية لأنه يرفض كل ما حوله ربما لفرط تشاؤمه أو لفجيعته في أمانيه العذبة أو لأن ماضيه ارتبط بمشاعر قوية لديه مهما كان نوعها.
* أما النصف الآخر الذي اتخذ من ماضيه سبيلاً للرزق. فليس أبلغ من مثالٍ عليه سوى الرئيس الأمريكي الأسبق (بيل كلنتون), فهو ـ عندما كان رئيساً ـ كانت الفضائح والديون الناتجة عنها تلاحقه أينما سار بعد أن أصبح زبوناً دائماً لدى مكاتب المحامين بسبب المدعوة (مونيكا) وغيرها. لذلك لم يكن مستقبله زاهراً بعد أن ترك سدة الحكم. فكل ما لديه من مؤهلات كونه رئيسا سابقا ودنجوان، ولم يجد للأسف منصبا رئاسيا شاغرا في كل العالم ليشغله ويقدم خبراته.. فما الذي تبقى له ليصبح مصدراً ثابتاً للدخل يهيئ له حياةً كريمة كالتي اعتاد عليها داخل البيت الأبيض؟!.. إنه الماضي.
(فكيلنتون) يعيش الآن على ماضيه.. وقد حقق في سنة واحدة عوائد مادية توازي ما حققه طوال سنواته الثماني التي قضاها في الحكم!
فالمحاضرات التي ألقاها عن تجربته وذكرياته وأخطائه وحدها أدخلت إلى حسابه المصرفي حوالي 150 مليون دولار حتى الآن!! ولازالت العروض تنهال عليه من كل حدب وصوب في المعمورة.
* إذاً، (كيلنتون) الذي باع مذكراته فقط مقابل 12 مليون دولار بينما باعت زوجته (هيلارى) مذكراتها بـ8 ملايين بات يؤمن تماماً بالمقولة الشهيرة (الماضي يبيع).. وبينما يحاول الغالبية أن يتناسوا ماضيهم ـ لا سيما الحكام ـ يجتهد هو في تذكر كل صغيرة وكبيرة ولا يعنيه كثيراً ما يوصم به بعد ذلك, وعلى كل زوجة أيضاً أن تكون من الحكمة بالقدر الذي كانت عليه (هيلارى) وتؤمن بأن ماضي الزوج الأسود يصلح في اليوم الأبيض، ويحقق أرباحاً كبيرة ولا يعتبر من الخسائر الشخصية. فهي لم تكتف بأن غفرت لزوجها خيانته العظمي فحسب، ولكنها بادرت أيضاً لكتابة مذكرات موازية لمذكراته وكأنها تريد أن تقول لكل العالم: (لقد كنت قريبةً من الحدث ورأيت ما لم تروه)!!
* إن تجربة هذا الثنائي المدهش تجيء على غرار بيعنا للأشياء القديمة المهملة داخل بيوتنا لبائع الخردة. قد لا نحتاجها ولكن هناك آخرين مستعدون دائماً لشرائها. وقد لا يرجع الكثيرون المنافع الكبرى التي حققها (كلنتون) بذلك النشر الفاضح لغسيلة القذر لأي سبب شخصي يتعلق به بقدر وجود المرأة في حياته سواءً كانت زوجته أو غيرها من نماذج جديرة بالوقوف عندها ولو قليلاً.
* ترى.. هل يفكر حكامنا العرب يوماً في بيع مذكراتهم؟ وكم من الأرباح سيحققون حينئذٍ؟ أم أنهم لم يعودوا في حاجة للمزيد من المال كما أن زوجاتهم غير مستعدات لإبداء ذلك التسامح النبيل؟.. إن الأمر لا يقتصر على الرؤساء والحكام ولا الساسة والوزراء فحسب.. ولكنه يمتد ليشمل كل أولئك الذين يعمدون للهروب من ماضيهم والتنكر له بكل ما فيه ومن فيه.. وهم لا يعلمون أن الناس لم تعد تقول لأحدهم (لا تنس ماضيك) من باب المعايرة كما كان في السابق.. ولكنها عبارة تدعو أصحاب ذلك الماضي من الكبار للاستثمار، فلم يعد البخل ولا الجحود وحدهما يحققان أعلى المكاسب.. ولكنه الماضي الذي كلما كان وضيعاً ارتفعت أسهم صاحبه في بورصة الذكريات.
* تلويح:
مهما كان الماضي سيئاً وبلا قيمة.. يظل لذكرياتنا ثمن.
إندياح – صحيفة اليوم التالي