زيارة وفد من أعضاء الكونغرس للخرطوم أو دارفور، لم تعد منذ مطلع العام الجاري بالأمر النادر الحدوث، بل أضحت في واقع الأمر جزءاً راتباً من المشهد الدبلوماسي والسياسي، يتكرر كل شهر أو اثنين، ففي مطلع العام افتتح دونالد بيتس عضو مجلس الشيوخ بولاية كنساس جولات النواب الأمريكيين، عندما ترأس وفداً التقى بعدد من المسئولين في الخرطوم، قبل أن يزور دارفور، لكن الزيارة التي حظيت بالشهرة أكثر من غيرها كانت زيارة جون كيري رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، ومرشح الرئاسة السابق عن الحزب الجمهوري، الذي التقى بعلي عثمان محمد طه نائب الرئيس، ود.نافع علي نافع مساعد الرئيس، ود.غازي صلاح الدين مستشار الرئيس، كيري حينها أبدى سعادته بوجوده في السودان، ونجح في الحصول على التزام من الحكومة بفتح الباب أمام منظمات الإغاثة للعمل في دارفور، بعد أن طردت الخرطوم مجموعة من المنظمات العاملة في مجال المساعدات الإنسانية عقب صدور أمر توقيف بحق الرئيس البشير من المحكمة الجنائية الدولية، أما المقابل فكان وعوداً ألمح إليها كيري بالعمل على دفع جهود التطبيع بين واشنطون والخرطوم.
الزيارة التالية قام بها في مايو الماضي السيناتور جون ايزاكسون برفقة السيناتور بوب كوركر، وممثلين عن الحزب الجمهوري، وقابلا نائبي الرئيس، وزارا دارفور، وقالا للإعلام إن ما وجداه على الأرض يختلف عما نقلته إليهما التقارير الصحفية، وأنهما سيعودان إلى الولايات المتحدة ويعملا على تقريب المسافة بين الخرطوم والكونغرس، أما السيناتور كيث ألسون فقد وصل إلى السودان مطلع الشهر الجاري، وكعادة النواب الأمريكيين التقى بمسئولين حكوميين في العاصمة، يرجح أنهم قالوا له ذات الأشياء التي قالوها لمن سبقوه، وسيقولونها لمن سيأتون بعده من الأمريكيين، أشياء لا تخرج بطبيعة الحال عن مواقف الحكومة المعلنة من القضايا المطروحة، وبعد محطة دارفور توجه أليسون صوب جوبا حيث قابل سلفاكير، وفصل أليسون بين تنفيذ اتفاقية السلام الشامل وبين رفع اسم السودان عن قائمة الدول الراعية للإرهاب، وقال إن التدخل للمساعدة في حل قضايا السودان الداخلية يجب أن لا يرتبط بمدى امتثاله لمطلوبات
رفع اسمه عن قائمة دعم الإرهاب.
آخر وفود الكونغرس، وصل بالأمس برئاسة السيناتور ماريسا دوران، والغرض من الزيارة بحسب نصر الدين والي مدير الإدارة الأمريكية بوزارة الخارجية هو الوقوف على الأوضاع الإنسانية، ومقابلة وكيل وزارة الخارجية مطرف صديق ومسئولين بوزارة التعاون الدولي، فضلاً عن زيارة لشمال دارفور للقاء قادة قوات حفظ السلام وزيارة بعض معسكرات النازحين.
ما جمع بين وفود أعضاء الكونغرس العديدة، رغم اختلاف خلفياتهم الحزبية ومواقفهم الشخصية، كان الحرص على تواصل أعمال الإغاثة، فالجانب الإنساني لأزمة دارفور هو الأساس الذي تركز عليه جماعات الضغط المتغلغلة داخل الكونغرس، كما أن الولايات المتحدة هي أكبر المانحين للعمل الإغاثي في دارفور، ما يعكس أهمية الملف وحجمه بالنسبة للأمريكيين.
مصدر حكومي لم يكشف عن اسمه، نقلت عنه وسائل الإعلام قوله إن زيارة وفد الكونغرس الأخير تأتي في إطار التقييم المستمر في الكونغرس لتطورات الأوضاع الإنسانية في دارفور، وعودة النازحين.
الخلفية الأوسع لتحركات أعضاء في الكونغرس منذ مطلع العام نحو السودان تمثلت في تزايد الآمال بتطبيع العلاقات بين الخرطوم وواشنطن، على خلفية شعارات التغيير التي رفعها الرئيس الأمريكي الجديد باراك أوباما، وخطابه في جامعة القاهرة الذي ألمح فيه لطريقة أخرى في التعامل مع العالم الإسلامي، لكن أبرز ما جاء في باب التطبيع كان حديث سكوت غرايشون المبعوث الأمريكي الشهر الماضي أمام لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس الذي انتقد فيه جزئياً العقوبات الأمريكية على السودان وأعتبر أن بعضها يعوق جهود العمل الإنساني ودعا إلى تخفيفها، كما شكك في جدوى إبقاء السودان في قائمة الإرهاب قائلاً إنه لا توجد معلومات تشير إلى أن حكومة الخرطوم لا تزال تدعم الإرهاب، قبل أن يتراجع غرايشون لاحقاً عن موقفه ذاك ويقول لرويترز إن حديثه أسئ فهمه وأنه يعارض تخفيف العقوبات.
الخلاف داخل الإدارة الأمريكية حول السياسة إزاء السودان لم يعد سراً، تلك الخلافات التي كانت السبب بحسب مصطفى عثمان إسماعيل مستشار الرئيس في عدم تضمين السودان في قائمة الدول التي زارتها هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية في جولتها الأفريقية مطلع الشهر الجاري، وفي ذات الاتجاه مضى أمين حسن عمر وزير الثقافة والشباب والرياضة إلى أن مساعي غرايشون تعترضها صعوبات كبيرة، وأن العلاقات بين الخرطوم وواشنطن تحتاج لصبر.
أثر زيارات وفود الكونغرس على تلك العلاقات يبقى موضع تساؤل، فبينما يرى البعض أن مثل هذه الزيارات تكسر الجليد بين الحكومة والكونغرس وتسهم في فتح المزيد من الأبواب أمام الحكومة في الكونغرس، والأوساط الأمريكية الاخرى، يذهب البعض الآخر إلى أن مثل هذه الزيارات بلا فعالية وتأخذ طابعاً شخصياً أكثر منه مؤسسي، ويقول د.معتصم أحمد الحاج رئيس وحدة الدراسات السودانية بالجامعة الأهلية أن زيارات أعضاء الكونغرس سياحية أو زيارات علاقات عامة في أحسن الأحوال، وليس لها أثر، كما أنهم لا يطلعون خلالها على شيء جديد بخلاف النظرة الحكومية المعروفة سلفاً لدى الأمريكيين، ويرى معتصم أن الكونغرس كمؤسسة لا يزال يمضي في خط مواقفه القديمة دون أي تغيير حقيقي حتى الآن.
ربما لم يكن لدى نواب الكونغرس ما يقدموه مباشرة لملف تطبيع العلاقات بين السودان وأمريكا، ولكن زياراتهم العديدة منذ مطلع العام كانت مليئة بحديث من النوع الذي تفضل الحكومة على الأرجح سماعه من الضيوف على أرضها، ويبدو أن ما يستطيع هؤلاء النواب تقديمه هو مواصلة الحديث عن السودان بذات الطريقة التي تفضلها الحكومة، حتى بعد نهاية مدة الضيافة، وعودتهم إلى أمريكا.
مجاهد بشير :الراي العام