تجليات: “مولانا” ولعبة القط والفأر
في ليلة من ليال شهر أبريل من هذه السنة ذهبت إلى قاهرة المعز تحت أجواء خانقة مكتنزة بآهات أهلنا هناك، من أولئك الذين عانوا وما زالوا يتكبدون ثقل الأحداث على أنفسهم. وصلت إليها بحمد الله – قادما من الخرطوم المستغيثة والجاثمة على أنفاسها. ما أن وصلت حتى أقلتني سيارة الفندق من المطار إلى مكان إقامتي بحي الزمالك. كنت أثناء الطريق المزدحمة اتجابد أطراف الحديث أنا والسائق بينما الرصاص الحيّ يدوي في الأفق وكأننا على وشك الخوض في معركة مصيرية حامية لا نعرف نتائجها ولا نتوقع عاقبتها. أومأ إليّ السائق هامسا بصوته المتهدج عندما سرق بحرفنة متناهية الطريق متجها صوب حي أمبابة: “هل ترى تلك النيران؟” أجبته في دهشتي الآنية: “يا إلاهي، ما هذا؟” قال: “هذه الكنيسة القبطية تحترق.” لم تعرف مصر هذا التزمت والحقد الأصوليّ بهذه الكثافة وهذا الإطناب من قبل! سألته: “لماذا؟” أجابني منكسر الخاطر وكأنه يستنجد بما سأقول: “لأنهم يقولون أن الأقباط كفرة!” استطردت سائلا: “ألم يقل الله في كتابه (قُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ)؟” أجاب : “عليك نور يا أستاذ”، واستطرد: “كمان قال، لا تكريه في الدين، مش كده برضو؟!” ضحكت ولم أنبس. حينها أدركت إلى أيّ حدّ ما ستجنيه مصر من هذا التزمت الحارق وما سينقلب عليها من جراءه من معارك دامية بسبب الطائفيّة وإتاوات القتل باسم الدين. نعم، تلك الفئة تطالب دون أخرى بأنها الوحيدة القائمة على أمر الدين الحق وكأنها هي دون غيرها الممثلة لحكم الله على الأرض في استمساكها بعروته الوثقى وسراطه المستقيم المؤدي إلى الخلد بحوره العين. ذهبت في غضون اليوم التالي وبعد أن استرجعت شتات خواطري وبعد هدوء ربما يسبق عاصفة قادمة إلى وسط البلد متنقلا بين المكتبات التي تحمل في طياتها تحفا بديعة من أمهات الكتب وغيرها. وفي الحقيقة لقد كان هذا هو الغرض الأساسيّ الذي ساق حضوري إلى مصر المؤمنة. وقفت أتفحص الجديد المثير من كنوز الأدب بمكتبة الشروق فإذا بصورة كتاب تستثير فضولي: غلاف رواية برجل ملتح يحمل عنوان “مولانا”. نعم، هي الرواية الجديدة للكاتب والصحفي المرموق إبراهيم عيسى.
يتناول من خلالها الكاتب إبراهيم عيسى ظاهرة “مشايخ الهواء” أو كما يقولون “دعاة الفضائيات”. تلك الظاهرة التي تفاقمت وانتشرت في السنوات الأخيرة بصورة لافتة للنظر. انطلاقا من مجريات القصة واستنادا لمادتها الدسمة نراه قد أقدم على عمل يتسم بروح البحث والاجتهاد في مادة الرواية كما وأجد أنه أصاب في انتقاء المادة وفوق هذا وذاك أصاب الكاتب في تحليل العالم الخفي لهؤلاء الدعاة من المشايخ. لقد تناول حيواتهم المتباينة والمتأرجحة بين الدين والدنيا بدقة وتمعن. إذ أنه أجذل في ابراز الوجه الآخر للتدين السلطاني أو قل التدين الأمنويّ. أطنب في وصف علاقاتهم الوطيدة بأجهزة “الأمنوقراطية” (على حد اصطلاح د. حيدر ابراهيم)، وكشف لنا الألاعيب التي يستخدمونها للوصول إلى ضالتهم المنشودة في الاسترزاق بكل السبل المتاحة لهم – بالحلال وبالحرام. بيد أنه تصدى لقضايا هي ليست أقل أهمية من المذكورة سلفا، تُعنى بإعمال العقل والتدبر في مسائل الدين، ناهيا بشكل أو بآخر الابتعاد عن الحفظ والتقليد في مسائل بديهيّة أخفق فيها زملاءه من الشيوخ، من القدامى والمحدثين، وانزلقت أقلامهم وأصواتهم فيها على حد سواء. يعرض في سياق الرواية أيضا قصة تنصر شاب من أثرياء القاهرة واعتناقه دين الأناجيل مع حفنة من اصدقاء ناقمين على دينهم الذي انسلخوا عنه هكذا تزمرا وتمردا. نراه يصف من خلال السرد عنهم وعبر الجدل مع أحدهم (بطرس) مألات هذا التنصر بالنسبة لأبيه وزوج أخته (ابن رئيس البلد) وما سوف يخرج من مصائب، لا قبل لهم بها، إن أشرق خبر هذا التنصر، الذي يستفز مشاعر أسرهم وذويهم والبلد عموما. فيقص علينا هاهنا أحداث تتمحور بين جدلية الأسلمة من جهة وخطر التنصر من جهة أخرى، بدقة منقطعة النظير.
يقول إبراهيم عيسى عن روايته الجديدة: “بدأت كتابة هذه الرواية عام 2009 وأنا أعارض الرئيس السابق، وأثناء محاكماتي ثم عند فصلي من الدستور، ثم منعي من الكتابة حتى قامت الثورة، ومرورا بالمرحلة الانتقالية، واستمررت في الكتابة حتى مارس من سنة 2012، إنها من أعز الروايات إلى قلبي”.
شخصية مولانا (حاتم الشناوي) داعية الفضائيات (المودرن)، وشخصية المتصوف (مختار الحسيني) والمتنصر (حسن أو بطرس)، ورجالات الدولة من مؤسسات المباحث وأمن الدولة والشرطة وكبار القادة المتمثلين في نجل الرئيس وأعوانه من المستوزرين، هي الشخصيات التي كان لها نصيب الأسد في تسلسل هذه الرواية المتميزة ذات المضمون الأدبي الرفيع. لقد سلط إبراهيم عيسى الضوء هاهنا على شيوخ السلطان من الدعاة الذين لعبوا دورا رئيسا في التأثير الأيديولوجي في رأي الخلق من البسطاء وفي قيادة وتسيير عجلة الرأي العام بالبلد عموما، عندما ينطقون بلسان حال السلطان (كمولانا حاتم الشناوي) ويسيرون في نهج فتاوى رجالات الأمن والمباحث، الذين يحركونهم كدميات مسرح عرائس لا تقدم ولا تؤخر. يلعبون بهم من يد إلى أخرى، والموت لمن لا يلتزم بتعليماتهم الأمنية فهو عندئذ من عصبة الكفرة الفجرة وفي حدقات عيونهم الخفية المتواجدة في كل زمان ومكان من ملّة الخوارج. يعالج إبراهيم عيسى تلك الظواهر السالبة كمستجدات مرضيّة أو قل كأورام أسهمت جلها في الحال المتردية التي وصلت إليها مصر في هذه الحقبة. لقد نجح إبراهيم عيسى في أن يطرح من خلال هذه القصة عدّة تساؤلات وأن يثير جدليات ثرّة يعيشها المجتمع المصري واقعا ملموسا – كأنموذج للمجتمعات العربية من المحيط إلى الخليج – وخصص هاهنا إشكاليات الفتاوى المتعلقة بقضايا الخروج على الحاكم (خليفة الله على الأرض) وقضايا التشيع والخوارج والتصوف وحكم الرّق والجواري وفي الآخر الفتوى الصلعاء المتمثلة في رضاعة الكبير. أنطلق من هذا السياق ليجسد مسألة “القشوريّة” في التدين عندما تنازل مولانا حاتم الشناوي (بطل الرواية) عن تقديم العلم الخالص الحق للمشاهدين والاكتفاء بالقشور من أجل الشهرة وركضا وراء بلوغ قمم ثريا الإعلام. يتداخل ويكتفي الداعية حاتم الشناوي ببسط من المواضيع أسهلها بغية ارضاء رجالات الدولة ونزولا عن رغباتهم. فصار شغله الشاغل أن يقدم قشور الدين وسطحيات التعامل بها عندما يجيب على الهواء (على سبيل المثال) على أسئلة أبجدية عامة سطحية ساذجة – على حد قوله – تتنقل بين نواقض الوضوء وشروط الغسل وأحكام التيمم الخ، تاركا أمور العلم وكنوزه كما يقول – لنفسه لأنه إن أفصح عنها لقامت الدنيا وقعدت وألا يتهمه أهل الأمن بالكفر والهذيان الدينيّ والخروج عن أمر السلطان.
تدور أحداث الرواية في حقبة قبيل ثورة يناير عندما كان نجل الرئيس يدير البلد (والمقارنة بالرئيس مبارك هاهنا جديرة بالإمعان). خلق الكاتب إبراهيم عيسى في سياق هذا العمل أحداثا هي أغلب الظن خياليّة بيد أن الظروف التي ولدتها والمؤثرات التي أنشأتها والمحاور المظلمة التي انبثقت عنها دون أدنى شك واقعية وحقيقيّة إلى أبعد مما نتصور. فهي تفضح وتعري وتناكف ثم تسخر وتلعن. إذ أن أنموذج رواية “مولانا” يمكن أن يُنقل بحذافيره إلى أيّ بقعة أخرى من بلاد العالم الثالث سيما البلاد العربية: الفساد المتفشي، الارتشاء، شمولية الأنظمة وبطشها بكل من يخالف أسفار السلطان ومصالحه، قضايا الأقليات الاثنية وهلم جر. تكشف شخصية حاتم الشناوي (مولانا) حفنة من العقد الشائكة المتعلقة بالمصالح والإتجار بالدين من أجل مقاصد دنيوية، فلا تكتفي هذه الرواية بتصوير بروفايل شخصية هذا الداعية الفطن بيد أنها تتوغل إلى أعماق تفكيره واحساسه المرهف فتفتق من جهة مقدراته الفذة في الجدل والمحاورة والاستبيان، ومن جهة أخرى، تستدرك عليه هشاشة الانسان الواهن، المخلوق من لحم ودم، ومدى تأثره بموجات الإذعان للحب والشهرة والجاه. تنساب بين الأسطر جينات حاتم الشناوي المتأرجحة بين الوهن والقوة، بين الخضوع والتمرد وعند الخروج عن العادة المتعارف بها والمتأصلة في حيز الزمان والمكان. تجدها حينا تشدنا إليها وحينا آخرا تنفرنا منها ويظل هذا التأرجح المستمر بين الحب والولع والبغض والحنق تجاهها خيطا أحمرا يمتد على طول مجريات الرواية.
لقد وهبت الرواية حيزا كبيرا لبطل آخر هو حسن أو بطرس كما أسلفنا ذكره – الذي اعتنق المسيحية رغم أنه جاهل بها تماما كجهله بالإسلام. لقد جاء تحليل حاتم الشناوي لعلّة حسن بأنه تمرّد واضح على الانحطاط الأخلاقي الذي عاشه ويعيشه في كنف أبيه، رجل الأعمال والملياردير المرموق، ومن خلال احاطته التامة بمجريات حياة صهره (زوج أخته)، نجل الرئيس، الذي يمتلك نواصي الأمر والنهي بالبلد. ظهر حسن في حيثيات المشهد الأخير بالرواية حينما تم تفجير الكنيسة القبطية وتبدّى هذا الفعل من صنع يديه. وفي حبكة الرواية نجد أن أحداثها لا تسير على وتيرة رتيبة، واحدة وأفقية، ولا تكشف عن كنهها من أول وهلة؛ فتقنية التنقل بين الأحداث وربطها وفكّها من بعضها البعض كانت في غاية الإحكام والجمال، إذ نجد حسن في آخر المطاف وبانسياب بديع يفاجئ القارئ – ليس واحدا من الذين تنصروا بل هو أحد أعضاء تنظيم القاعدة الذي خطط بحنكة لتفجير الكنيسة.
من جهة أخرى سلطت الرواية الضوء على أحد قادة الطرق الصوفية مختار الحسيني، الذي يلمّ ببعض أسرار الدولة وانتهاكاتها. فأُعلنت الحرب عليه وفُضح في كل منابر الإعلام بأنه شيعيّ ممقوت وعميل لنظام الشيعة الإيراني. فكان مصيره الأخير أن أختفى في غياهب دهاليز الأمن ومن ثمة تمت تصفيته إلى حيث لا رجعة.
هذه الرواية المتكونة من ستمائة صفحة مليئة بجمال الكلم وفصاحة القلم وبيان الجمل وسلاسة السرد ومتانة الحبك. فأنت لا تفتأ حينا تبدا في قراءة صفحة من صفحاتها وتدخل في عمق قصة حتى يخرجك الراوي قبل أن يرتد إليك طرفك إلى أخرى ومنها إلى ثانية وثالثة وهكذا. وفي كل وهلة تحسب أنها الأخيرة وأنها ليس لها أدنى علاقة بالأولى، لكنه، وهذا ما أدهشني حقا، ينقل القارئ بسلاسة وتمكّن في حركة دائرية يرتبط كل من القصص ببعضه البعض برباط وثيق، والكاتب يمسك بكل خيوط السرد القصصي في يديه وفي نهاية المطاف تجد نفسك وكأنك في دار تقليديّة بها ممرات متداخلة متباينة متشابكة لكنها تحوي في النهاية قصة أسرة واحدة انبثقت من نبع واحد ويصب تاريخها في قاع واحد. قرأت في خلال الأيام الماضية العديد من الروايات – على سبيل المثال – للأسواني (عمارة يعقوبيان، نادي السيّارات، شيكاغو)، ونجيب محفوظ (الثلاثية وغيرها من جديد) ولرضوى عاشور (ثلاثية غرناطة)، لكنني لم أترك نفسي تنقاد بهذه الكثافة وهذه المتعة إلى إحداها إلا حينا قرأت رواية مولانا.
يصب الراوي في سياق الأحداث العديد من خبراته المتينة كرجل إعلام متمرس وكوثائقيّ متمكن امتهن الصحافة والعمل التلفزيوني بجدارة. نجده ملم بكل صغيرة وكبيرة تتعلق بأمور البث التلفزيوني وخبايا الفضائيات التقنية والعمليّة على حد سواء. كما نجد روحه المرحة الضاحكة الساخرة لا تنفك عن قلب القصة إلا وتترك بصماتها على كل صفحة من صفحاتها. بديع هذا الراوي عندما يضرب وتر حدث مؤثر ومفزع و”يدوزنه” ببعض نغمات من مقامات المرح والغبطة والنكتة المحكمة حينا يشد اللجام على القارئ ومن ثمة يتركه وكأنه يمتطي دابة يسيّرها كيف يشاء في متون الأدب. فرواية إبراهيم عيسى (مولانا) جديرة دون أدنى شك بالقراءة.
(فرواية إبراهيم عيسى (مولانا) جديرة دون أدنى شك بالقراءة.) البركه فيك يادكتور عندي سؤال اصابع يديك زي بعض