ولسعدي يوسف قصيدة موسومة بـ (مقهى على باب الزبير)، وبعض القصائد تأخذك إليها أخذاً (وبيلا): “مقهى على باب الزبير/ تقابل المقهى من الجهة اليمين/ الشرفة الخشب التي جاءت من الهند البعيدة/ واليسار يضم مكتبة ودكاناً لبيع الخردوات”.
ثم: وفي المقهى “الساعات تمضي/ والهواء الرطب يدخل في القميص ويستقر حرارة منقوعة في الصدر”.
وبعض القصائد أيضاً، تصلح معياراً لقياس المواد السائلة لا الجافة كـ (رطل) اللبن والزيت. والمواد السائلة في حالتنا الراهنة كثيرة، حتى الخرطوم أضحت ولاية سائلة يضع فيها من يشاء (رطله) – في الحقيقة ليس من يشاء – وإنما من يستطيع سبيلا، ويغرف حتى تفيض (تُمنته)، ويلحس الآخرون ما سال على جوانبها.
من الجهة اليمين لمقهى الخرطوم الوطني، تجلس طائفة من الرجال والنسوة في عمائم معصوبة وثياب (مكروبة) بعناية فائقة، أما يسار المقهى حيث الكتب والخردوات، فالرجال والنساء يجل وصفهم. ولكن، ولأن أجر المحاولة مُتاح، فلنحاول إذن، أن نصفهم ونحن ننظر إليهم من علٍ، ربما من الشرفة الخشب التي جاءت من الهند البعيدة، أو (مصر) القريبة.
يبدون، وهم يمِجّون من (غليون) ضخم دخاناً (نضالي) معتق، ثم ينفثونه على وجوه الجميع، وكأن غلالة سوداء تغطي أبصارهم، ورويداً عندما تنقشع يظهرون كخنافس وخنفسانات، (يدرشون) المُصطلحات كما تُدرش (الفتريتية) في رحىً بيضاء.
وسط المقهى، لوبي مكون من منصة في هيئة قوس (جزافي) ومقاعد مرتفعة بمحازاتها، عليها (يرتفع) ثلاث رجال وامرأتين، يحتسون.
قال نادل المقهى للشاعر: هؤلاء يحتسون كل شيء، نهِمون وجشِعون، دولارات، أراضي، عمولات، مصانع، سفن ملأى، أساطيل نقل، ذمم بشرية، وغسيل (أنفس متسخة).
وفي المقهى الوطني تمضي الساعات، والهواء الرطب يدخل بين ثنيات أكمام (الجلاليب) البيضاء وهفهفات ثياب النساء، ويستقر كحرارة منقوعة في صدورهم، بينما تضيق صدور المواطنين وهم يلهثون للظفر بوجبة غداء لصغارهم، وينتظرون أن يريهم الله يوماً (صرصراً عاتياً) في سارقيها الكبار.
الصورة الأخيرة، قبل أن يغلق المقهى الوطني أبوابه، يظهر أحد الزبائن القدامى، وهو يلف عمامته على رأسه (المُدبرة) كأفعى، بينما تتحرك عينيه الصغيرتين بسرعة فائقة، على غير العادة من أعلى إلى أسفل وبالعكس، ويمسح المكان، ثم يخطب في الحضور عن الحرية، ومحاربة الفساد، وعودة الديمقراطية، وإصلاح الخدمة المدنية، يخطب فيهم خطبة كأنها خطبة الوداع.
الحصة الأولى – صحيفة اليوم التالي