يدعوا بها كبارنا العارفين بمتاعب (بشتنة) أرذل العمر ثلاثية الإعاقة:
( الكبر) و(المرض) وثالثهم (الخرف).
والدعوة تحمل في ظاهرها معنى الدعاء على النفس بالموت .. فـ (القوة) هي تمام العافية والمروّة، و(الهوة) هي الحفرة العميقة أي القبر أو كما قال فكي (أبكر):
محل بردموكم ردم.
لكن باطنها يحمل تضرعا لله كي يقيهم شرور أرذل العمر، وأن ينعم عليهم الله بميتة هينة سريعة لا يسبقها طول رقاد من مرض أو هرم، وبذلك يكفيهم مشقة التعويل على الآخرين في تدبر شئونهم، وحسن ظنهم في (بر أبنائهم) وعشمهم في صبر هؤلاء الأبناء على حسن رعايتهم عندما (يردتوا) إلى عالم الطفولة في أرذل العمر، ويصيروا مثل الأطفال أحوج ما يكونوا إلى الحب والحنان والإطعام و(الحمّام) ..
وفي تلك الأخيرة الحمّام – قصة حكتها لي صديقة عزيزة لأسرتنا، عندما سمعتها ذات مرة تدعوا لشقيقتي لأنها (أم صبيان) بأن يكفيها الله شر بشتنة الكبر فقالت:
عاد يختي .. بعدين الله يكفيك شر حمّام المقاشيش.
شدّني مصطلح (حمّام المقاشيش) ورفع قرني استشعاري الشمارية، وقبل أن أتدخل وأطلب تفسير رسمي لهذه الدعوة سألتني صديقتنا:
(انتي يا منى سمعتي بي حمام المقاشيش؟)
أجبتها بأن (عاد يطرشني) فتبرعت لي بالحكاية التي تحمل الكثير من العبر لمن يعتبر:
تحكي قصة الدعوة التي صارت مثلا يضرب لمعاناة أرذل العمر، عن سيدة كان نصيبها في الذرية ابنين توقفت بعدهم عن الإنجاب قبل أن تسعد بـ (البنيّة حلاتا) .. عكفت السيدة على تربية أبنائها الإثنين ولم تبخل عليهما بشيء من عافية بدنها أو محنة قلبها حتى استوى عودهم وصاروا رجالا، فزوجتهما وأفردت لهما مكانا ليعيشا معها في البيت بعد وفاة أبيهما فعاشوا جميعا تحت مظلة حنانها وعطفها ورعايتها الشاملة.
ولكن لأن (دوام الحال من المحال) وكما غنى (أونسة) فقد مرت (أيام وراء أيام واتكاملت أعوام) .. مرّت سنوات تغيرت فيها مراكز اتخاذ القرار، وتحولت سلطات تصريف شئون مملكتها الصغيرة رويدا رويدا من بين يدها إلى يدي زوجتي ابنيها ..
ثم مرت تآآآني سنوات وسنوات كبرت فيها هذه السيدة وأصابها الهرم بالحجز والمرض، فصارت لا تقوى على الحركة إلا بمشقة شديدة ثم ارتدت إلى طفلة صغيرة لا تستطيع التحكم حتى في ما يخرج من السبيلين ..
وهنا (عافتها) السليفتان وتضجرتا من رعايتها والحفاظ على نظافتها الشخصية ولكن لأنهما من ملة الناس الـ (تخاف ما تختشيش) كما يقول المصريين فقد كانتا تحرصان على نظافة نسيبتهم العجوز خوفا من ابنيها زوجيهما لذلك ابتكرن طريقة (فعّالة) تتيح لهن تنظيف مخلفات العجوز دون أن يضطررن لتلويث أيديهن بها، فكن يحملن نسيبتهما ويضعنها في (نص الحوش) ثم تحمل احداهن خرطوم المياه وتحمل الأخرى المقشاشة، وبعد أن يجردنها من الثياب يفتحن صنبور المياه ويقمن بعد صب الصابون السائل عليها بتحميمها بـ (المقشاشة) !!
طبعا كل هذا يحدث من وراء ظهر الأبناء القاعدين في (أضان طرش) عن ما يحدث لأمهما، فعندما يعودا للبيت يجدانها نظيفة تلمع و(تراري) ومكرفسة زي اللقمة في نص السرير !!
ذكرتني قصة المثل ببكاء سيدة عجوز من معارفنا عندما توفت ابنتها الوحيدة، وكان عشم تلك السيدة كبيرة السن، أن تكبر وتخرف تحت رعاية ابنتها بدلا عن أن تبكيها، فالبنات أحن وأولى برعاية امهاتهن في الكبر من الأبناء .. قالت:
يا حليلة البتعدل الحالة المايلة .. وتقش الريالة السايلة.
قال تعالى: (ومنكم من يرد إلى أرذل العمرلكيلا يعلمَ من بعد علم شيئًا) (سورة النحل)، كما قال سبحانه وتعالى: (وَمَن نّعَمّرْهُ نُنَكّـسْهُ فِى ٱلْخَلْقِ) (سورة يس) صدق الله العظيم.
قبل أن نضع اللوم على انعدام بر الأبناء وقلة حرصهم على رعاية آبائهم في الكبر، علينا تدبر الحكمة التي تقول (داين تدان)، ومع اجتهادنا في رعاية آبائنا وكبارنا كي يرعانا أبنائنا في المستقبل .. علينا أيضا مراقبة الله في عافيتنا وشبابنا فيما نبليه حتى ننعم بشيخوخة كريمة نبلاها بي عرق العافية ..
قيل في الأثر أن شابا خرج مع أحد الصالحين لنزهة ، وكان هذا الصالح قد بلغ من الكبر عتيا ..فلما جاء ليركب القارب قفز كقفزة الشاب أو أجمل ، فتعجب منه رفيقه فقال له بثبات المؤمن :
حفظناها في صغرنا فحفظها الله لنا في كبرنا!!
لطائف – صحيفة حكايات
munasalman2@yahoo.com