د. محمد بدوي مصطفى
تجليات: ارجعوا لي بلدي وكوكبي القديم!
حقّاً أنها لرحلة مضنية نفد فيها صبر هذا الرجل المغلوب على أمره فتوقف عن الشكوى وجعل يحرك شفتيه الجافتين بلا صوت! صار حاج التوم يحملق بعينه الدامعتين في فراغ اللامكان، تارة هنا وتارة هناك وهو ينظر ويتابع بأم عينيه أن أعضاء أرضه في الكوكب الجديد تُبتر كل يوم الواحد تلو الآخر. تباع المدارس، والطرق والمؤسسات والمرافق العامة وبقي من فتات الوطن نصف المساحة أو أقل. ما هذا يا إلهي؟ أهل هو غضب السماء إذ أن الأرض بُتِرت “من خلاف”؟ أم أنه حكم شَرَعَتهُ الذات الإلاهية توبيخا لما نفعله وما يفعلونه في حقّ الوطن؟ لم يعد حاج التوم يعرف شيئا في بيئته؛ حتى أهله وشعبه تغيّرت ملامحهم وطباعهم. يرى كل يوم العجب العجاب. يرى فلذات أكباده تلتهمها نيران الحرب فيموتون كالجراد وتضيق بهم أرض الوطن فيلقى بهم أفواجا في حفيرات على حافة أرض الضباع.
استرسل ممتعضا يقول: كل شبر من الوطن الجديد ينادي الغريب مناجيا: اشتريني وبعني وخلصني هذا الجحيم! اشتريني واقذف بي في كوكبي القديم، في مجرتي التي أعرفها؛ هناك عند ملتقى النيلين، حيث أرضي الطاهرة. هناك حيث طوت بَركة السماء بجناحيها على أرجاء أرضي فزملتها سكينة وغمرتها رخاء!
أدمع حاج التوم قائلا: هناك شبر آخر من جسم الوطن آل أو قل هو في طريقه لأن يستلب: مدرستي وأول مهد تعلمت في ارجاءه أحرف الهجاء. نعم، مدرستي هي بيت المال النموذجية وهي في الطريق المؤدية لأجراس دلالات أعضاء الوطن؟
هل تعرفون قصة المرأة المتسولة التي دخلت إلى المستشفى بابنها الذي كان يعاني من آلام حادة بالمعدة بغرض العلاج؟ عندما خرجت معه من المستشفى اكتشفت أنهم أخذوا عينيه. نعم أخذوها وباعوها للأكابر. وهكذا حال السودان، سلب هؤلاء من أعضاءه ما سلبوا: العينين، الأمعاء، الكبد، البنكرياس، الرئتين. فصار جسد بلا روح. كل يوم نصبّر أنفسنا فنقول: إنه مهما كان ومهما يكن ومهما سيكون فسوف يفصح الليل عن صبح أغر وكما كان يقول حاج التوم “لا يغلب عسرٌ يُسرين”. لكن طال الصبر ولم ينجل هذا الليل الذي طال ليفصح عن صبح مشرق. تلاشت أمام حاج التوم ما عرفه من بهجة ومسرة ومرح وصار كبقية الشعب يلهث كالكلب. فما أن تنتهي طامة تتبعها الأخرى دون مقدمات وهؤلاء يصبروننا بنفس الكلمات التي يكررونها دون أن يدروا مضامينها وابعادها النفسية في قلوب البشر: هي مشيئة الله، هذا امتحان للمؤمنين، لا تقنطوا من رحمة الله؛ وكما يقولون “الإيدو في الماء ما زي الإيدو في النار”.
هذا عهد أعنف مما تصورنا، بل هو في الواقع عهد لا يحتمل. فالمؤسسات بيعت لكل من هبّ ودبّ. أجراس الدلالة قضت على الأخضر واليابس. أغلبية المناطق المجاورة للنيلين بيعت لقطر والسعودية وليبيا وحتى بعض الوزارات التي تشمخ بمباني بطراز انجليزي فريد. الكل يعلم عن بيع حديقة الحيوان، كمحمية صغيرة، وباعتبارها ارث ثقافي وبيئي قومي، فمدير مشروع تنمية محمية الدندر القومية التي أسست عام ١٩٣٥، ذكر لجريدة السوداني إذذاك خوفه من المصير الذي ينتظر تلك المحمية الكبرى، محمية الدندر. هل هي أيضا في طريقها للبيع؟
أرسل لي صديق عزيز موضوعا اضطرني لكاتبة هذا المقال. ألا وهو محاولات لبيع مدرسة بيت المال النموذجية التي تعتبر صرح تاريخي شامخ خرج من أعمدة البلد ما خرج. الأمر في غاية الأهمية لكل حادب على مصلحة الوطن. لقد باعت الحكومة سلفا مدارس أخرى كمدرسة عثمان بن عفان بحي العرضة بأمدرمان (جوار جامع فيصل) لمستثمر كويتي، ولم تعلن عن الأمر، إذ أنها حاولت إخفاء الأمر واضعة لافتة كُتب عليها: المدرسة تحت الصيانة لمدة ١١ شهر وهي ملك لمحلية أمدرمان. ويتضح من هذا التدليس أن الغرض المنشود من قبل السلطات هو محاولة ابعاد أي شبهة عنها. ولا تسألوا عن التلاميذ فقد شردوا ولم ينظر أحد إلى هؤلاء المساكين، فالدولارات أهم. وهل تعتقدون أن الوزارات المسؤولة وجدت لهم فرص إجلاس أخرى؟
منذ أن حضر هؤلاء فهم شرعوا في مصادرة الأراضي والمدارس والمؤسسات الحكومية، سودانية كانت أم أجنبية. لكن من المشترى ومن المستفيد، عدا اصحاب الريالات من بلاد شبة الجزيرة العربية؟ هل المستفيد هي المؤسسات الوطنية التي يمتلكها النظام؟
ربما يستذكر البعض منكم بيع مدرسة الخرطوم شرق العريقة والتي حل محلها بنك “بلا بركة”. وعدا مدرسة بيت المال التي هي في طريقها للبيع، ذلك لموقعها الاستراتيجي أمام كبري شمبات، فهنالك مدارس أخرى نعدها الآن في حساب التاريخ؛ منها مدرسة الخرطوم القديمة الثانوية والخرطوم التجارية. وكما ترون أخوتي أن على أراضي هذه المدارس ذات التاريخ الشامخ تنبت الأبراج والعمارات الشامخة من الأرض كالفطر.
فأين هيئة تطوير ولاية الخرطوم وماذا وراء الادارة العامة للإسكان والتعمير؟
رجع حاج التوم يقول: لقد بلغ بي السيل الزبى فأرجعوني إلى أرض السودان، أرضي العريقة، التي أعرفها، وارجعوا عجلة التاريخ إلى الوراء، لأرى، ولو لمرة وقبل أن تفدى روحي، وجه وطني الذي عرفته من قبل. ارجعوا لي بلدي وكوكبي القديم!
بقلم: د. محمد بدوي مصطفى
[email]mohamed@badawi.de[/email]
(صحيفة الخرطوم)