أمامي الآن عدد من صحيفة الأوبزيرفر اللندنية (تصدر فقط يوم الأحد)، عن عمل روائي ضخم محوره الكارثة التي حاقت بمدينة بومبي الإيطالية التي كانت قريبة من مدينة نابولي الحالية، عندما ثار بركان فسيوفياس، في عام 79 قبل الميلاد، وأهلك الزرع والضرع في المدينة، فهلك مئات الآلاف من البشر في ثوان، وبالضرورة فإن الكاتب يتناول عظمة الإمبراطورية الرومانية، والتطور الهائل الذي شهدته في ميادين الري والزراعة والعمران والصناعة، وكانت تلك الإمبراطورية تغطي كل ما يعرف بالعالم القديم، ولم يصمد بلد تعرض للغزو الروماني أمام سطوة جيوشها، وبسبب كل تلك الأبهة والسلطان والهيلمان، جاء جيل من الأباطرة ممتلئا غرورا وثقة بالنفس واستخفافا بالآخرين، وارتكب حماقات استراتيجية فكان أن عرف الجيش الروماني الهزائم وكان أن تمردت على سلطته بعض الأقاليم التي كانت تدين لروما بالولاء التام، وتفككت أكبر إمبراطورية عرفها التاريخ، ولعل من شاهدوا فيلم «ذا فول أوف ذا رومان أمباير» ويعني «سقوط الإمبراطورية الرومانية» الذي شارك فيه عمر الشريف تناولوا جرعة مكثفة من التاريخ تشرح كيف يمكن لبنيان صلد ضخم أن يتهاوى كبيت الكرتون إذا أهمل بُناته ومهندسوه أمره، وحسبوا انه «خالد» لكونه محكم البناء وبلا نظير (ضاع الأندلس من العرب لنفس تلك الأسباب وبنفس تلك الأعراض والأمراض) وأمريكا المعاصرة كما قال العديد من الكتاب السياسيين هي الإمبراطورية الرومانية المعاصرة:
جيوشها في أركان الدنيا الأربعة تأمر وتنهى، بل لم تعد بحاجة إلى تحريك الجيوش، فأشخاص يجلسون في مكتب ما في مدينة أمريكية ما يستطيعون توجيه طائرة «درون»، أي بلا طيار لتضرب أي هدف في أي مكان في العالم، وأمريكا تتحكم في سعر النحاس والقطن والجرجير… والتيوس والبعير وتنتج الصواريخ والفياغرا وبيونسي ناولز، وتحدد كيف يتم تدريس الجغرافيا والجمباز.. وتعتبر الاستماع إلى هيفاء وهبي وباسكال مشعلاني علامة تحضر ورقي، وتعتبر المصالحة الوطنية الفلسطينية خروجا على طاعة ولي الأمر (من يحكمون أمريكا يعتبرون أنفسهم كفلاء جميع الدول، وأي دولة لا تأتمر بأمر الكفيل يتم جرجرتها إلى بيت الطاعة).
في علم الفيزياء يكون التمدد الشديد على حساب تماسك الشيء ويؤدي من ثم إلى تراخيه ووهنه!! وأمريكا كما نقول في العامية السودانية «إنشَرَّت» أي تمددت وترهلت، وفي الوقت الحالي فإن أكثر من ثلثي القوات الأمريكية المقاتلة توجد خارج الأراضي الأمريكية، وهو خطأ استراتيجي نبه إليه قادة عسكريون متمرسون، من بينهم جعفر بن شداد العبسي، فالأمريكان اليوم في اليابان وكوريا وهاييتي وليبيريا والعراق وأفغانستان وبنما وجرينيدا وأوروبا وسيراليون، ولو فتحت الثلاجة الآن لوجدت فيها جنديا أمريكيا مثلجا ينتظر الأوامر ليدخل المايكروويف للتسخين ثم الشروع في القتال… وصحاري أمريكا في نيفادا وأريزونا بها مستودعات ضخمة لقنابل نووية تكفي لتدمير الكرة الأرضية 14 مرة.. وهزة أرضية من النوع الذي قضى على بومبي الرومانية أو حماقة بسيطة من شخص معتوه قد تؤدي إلى فناء الولايات المتحدة كليا أو جزئيا، والانقطاع الفاجع للتيار الكهربائي في القلب الصناعي والتجاري لأمريكا قبل سنوات قليلة مما تسبب في خسائر بمليارات الدولارات، مؤشر على أن القوة العسكرية لا تجدي في مواقف طارئة معينة.. ثم إن الضعيف لا يبقى ضعيفا إلى الأبد، والعكس صحيح فقد كان للعرب يوما ما إمبراطورية تضاهي الدولة الرومانية، ثم صاروا يستجدون الطعام والأمان ممن أذاقوهم المر والهوان.. والصين كانت وإلى عهد قريب بحاجة إلى راع وكفيل، ثم تحولت إلى أكبر قوة صاعدة في العالم المعاصر: لديها موارد طبيعية.. وقوى بشرية منضبطة تأكل الزلط.. وتاريخ عريق لم تتبرأ منه.. ولديها الماء والأرض.. والتكنولوجيا والسلاح.. وبعد عقد أو اثنين ستنتقل الأمم المتحدة إلى شنغهاي أو هونغ كونغ وستهرع الوفود العربية إلى بكين لمناشدة الصين أن تضغط على إسرائيل لـ«تعترف» بالدول العربية!
[/JUSTIFY]
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]