ليلة أمس تواجهت في شاشة قناة النيل الأزرق مع الدكتور عبد الحليم المتعافي وزير الزراعة السابق.. في برنامج (حتى تكتمل الصورة) الذي يعده ويقدمه الأخ الطاهر حسن التوم.. وبعيداً عن تفاصيل الحلقة التي ربما شاهدها القراء الكرام.. تبقى قضية واحدة محورية هي سبب كل بلايا هذا الوطن المكلوم..
التداخل الكبير في مفهوم العمل الخاص مع العمل.. بمعنى أن تدار مؤسسات الدولة بروح (الخاص) وكأنها ملك للوزير أو المدير.. المعلومات (سرية) يتناقلها الخاصة .. والقرارات تعبر دائماً عن (مزاج) أو عبقرية فرد أو اثنين.. ثم تكون النتيجة في النهاية أن على الشعب السوداني دفع فاتورة الإخفاق بل والفساد.
الأمثلة كثيرة للغاية.. بل وللدقة- الاستثناء نادر.. فبكل أسف تحول جهاز الدولة إلى آمرين ناهين يتحكمون في القرار.. وجيوش من الموظفين- الصامتين تحت لائحة من أجل أبنائي- ليس أمامهم إلا أن يشاركوا بالفعل أو بالصمت في هذا الفساد الإداري الكاسح.
هذا الفقر اللئيم الذي يكابده شعب السودان ليس لضيق ذات اليد. بل بسبب الفساد الكاسح الذي إستشرى في جهاز الدولة.. حتى وصل الدرجة الثالثة.. الدرجة الحمراء القانية.. فالفساد ثلاث درجات.. الدرجة الأولى فيه هو الفساد الفردي.. المرتبط بالموظف نفسه.. أن يختلس أو يتلاعب أو يشتغل النفوذ .. لكن في حدود وظيفته وفي نفسه فقط.. الدرجة الثانية للفساد.. هي الفساد المؤسسي.. أن تصبح (المؤسسة!) هي الفاسدة.. ممارسة الفساد بأمر القانون وتحت سمعه وبصره.. بل بقوة ونفوذ القانون.. فتتحول المؤسسات إلى دولاب كبير يدير ويروج للفساد..
الدرجة الثالثة الأخطر القاتلة.. هي درجة (الإفساد).. أن يصبح (السيستم) نفسه هو الفاسد الآمر بالفساد.. يسمح للموظف الفاسد أن يستخدم كل سلطات الوظيفة في الفساد.. ويلفظ الذي لا يستجب لمطلوبات الفساد.. فيسقط أي موظف يحاول التعفف في سلطته وذات يده.. مثل هذه الدرجة هي التي عناها القرآن الكريم في الآية ( أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون).. بلغ الفساد بأهل القرية أن قانونهم يلفظ (المتطهر).. فيعاقب بالنفي من القرية.. لأنه لم يتبع (السيستم)..
السودان الآن وبكل أسف في هذه الدرجة الثالثة الخطيرة.. وما لم تبذل الدولة مزيداً من قوة (التطهر) فبكل يقين سيصبح السودان (أمه هاوية)..
حسناً.. الحريات الصحفية التي (سمحت!!!!) بها الحكومة أخيراً هي درجة من (التطهر) والسير في الاتجاه السليم.. لكن لا يزل مطلوباً مزيد من تنقية مؤسسات الدولة.. معالجة تبدأ بفرض (سيادة القانون). . فالوضع الذي نكابده الآن هو هبة سيادة سيد القانون.. عندما يكون الوزير او المدير فوق القانون.. يصبح هو السيد لا القانون..
المشوار طويل.. وسنظل وطناً فقيراً رغم ثراء الموارد الطبيعية.. طالما الفساد هو الآمر الناهي..
حديث المدينة – صحيفة اليوم التالي
[Email]hadeeth.almadina@gmail.com[/Email]