(وضع يده على الصفحة، لكي لا يرى الورقة البيضاء، وعاش تحت يده العارية، حينذاك أطبق أيضًا عينيه، وأصغى إلى بياضٍ مُكفن، مُعتم، لا يُوصف، يتصاعد في نفسه).
هذا طيف عابر من ترجمة علي أحمد سعيد “أدونيس” المكينة والدقيقة وذات البروج، لأشعار اليوناني الفذ (يانيس ريستوس)، ولأن الشعر (الشعر الحقيقي)، ذو وشائج بالسياسة والمعاش، عميقة وبنيوية، وليس كما يعتقد البعض أنه ضرب من (الخارم البارم)، والخارم كلمة تعني في (بعض معناها) الماجن الخليع، أما البارم فهو الذي يبرم الخيط أي يفتله من طرفيه، وبرَم شفتَه إذا حرّكها بطريقة تدلّ على تعجُّبه أو تبرُّمه.
لذلك كله، فإن الشعر حين يكون حقيقياً يمكنه أن يكون (خارماً وبارماً) ليس بالمعنى المتداول والشائع، وهكذا فإن البيان السياسي المختبئ بين تفعيلات شعر (يانيس ريستوس) أعلاه، فمن يصغي إلى ما يحدث الآن من إقالات أو استقالات وحملات رسمية بدعم شعبي كبير على الفساد والمفسدين في الأرض بفعل (التمكين) فكأنما يصغي إلى بياض مكفن.
أو لم تروا، كيف أن أحدهم يتعنت ويصرّح ( لن أغادر)، ثم ما إن يرخي ليل (البلاوي) سدوله عليه بأنواع من الهموم والغموم، حتى (يفزّ) فزّة أرنب مذعور، وتستسلم الطريدة دونما مقاومة مدعاة.
وحين تضع يدك كل صباح، على كتابات أحدهم المنافحة عن (ماضي الذكريات السيئة والطاعنة في العصب الحي)، تتذكر أن (ريستوس) قال (وضع يده على الصفحة، لكي لا يرى الورقة البيضاء)، لكن (صاحبنا) يطبق عينيه عن المشهد (الفاسد)، ولا يصغي إلاّ لصوت سنان قلمه تطعن (الأوراق)، سيُجن عندما يكتشف أنه الوحيد الذي يصغي الآن إلى بياض مكفن، إلى قبر معتم، حينذاك لن يجد بُداً غير أن يطبق عينيه ويتصاعد إلى نفسه (براااااحة كده)، وبتؤدة.
البيان السياسي الذي بين ظهراني شعر (ريستوس) يقول، في المرحلة الراهنة والقادمة وعبر الميكانيزمات التلقائية للفعل السياسي والصحفي لا يمكن إلا إذ حدثت (نطة جديدة) لأحدهم أن يغطي على المفسدين، وإلاّ لوجد نفسه يعيش تحت يدٍ عارية، وما أتعس العيش هنا.
الحصة الأولى – صحيفة اليوم التالي