* لنأخذ على سبيل المثال العادات التى كانت سائدة عندنا فيما يتعلق بالسفر. فالمسافر، خاصة الى مكان بعيد ولمدة طويلة كان يحظى باهتمام خاص ومعاملة حميمة تعكس قلقنا عليه وشوقنا اليه عندما يسافر او يعود ، فنذهب اليه لنودعه ويتطوع كثيرون لمرافقته حتى محطة السفرويذهب البعض الى ابعد من ذلك بتزويده بما كان يعرف ب(الزوادة) لتكون عونا له على السفر، ثم نذهب اليه لاستقباله والترحيب به عندما يعود، ونتسابق لدعوته الى الولائم والمآدب العامرة … وهكذا، واذا عاد وكان لديه عزيز لم يحضر وفاته، انفتح عليه الناس من كل حدب وصوب لاداء واجب العزاء وتعزيته ومواساته، وربما فتحوا العزاء من جديد ، تعزيزا لمشاعر المودة والمحبة والترابط الاجتماعى ، وكانت هذه العادة الطيبة برغم ما فيها من مشقة على الطرفين ، عنوانا وانعكاسا لمجتمع مترابط ومتماسك ورحيم !!
* وفى المقابل، كان المسافر يقابل ذلك الجميل بجميل مماثل، بالهدايا التى يحضرها معه ويفرح بها الصغار والكبار والاهل والاقرباء والاصدقاء والجيران ، ثم يكمل جميله بأداء واجب الزيارات، يبدأها بالذين فقدوا عزيزا لهم لمواساتهم، ثم للمرضى، ثم الكبار من الجدود والاعمام والخالات … الخ، وهكذا تمضى به الايام فى صفاء مع النفس، وترابط وتلاحم مع الاخرين الى ان يعود او يبقى، وتستمر الحياة بهذه الاريحية والمحبة والمشاعر الاصيلة !!
* ثم جاء هذا الزمن، ولم يعد المسافر يحظى بما كان يحظى به فى السابق من اهتمام ومعاملة خاصة ، مهما كبر مقامه وطابت معاملته للاخرين، واصبح ان لم يذهب ليودع الناس، لا يودعه أحد، بل ربما لا يتذكره الا اقرب الاقربين اليه . واذا عاد وجد نفسه وحيدا حتى لو كان هنالك ما يستحق ان يزوره الناس من أجله مثل أداء واجب العزاء فى عزيز لديه لم يعزوه فيه لغيابه، وان لم يعدهم هو لتحيتهم والسلام عليهم لاموه واعتبروه متكبرا عليهم . وفوق ذلك فهم ينتظرون منه مهاداتهم، ويعتبرونه مقصرا اذا لم يفعل، وربما يصفونه بأقسى الصفات فى حضوره أو غيابه، أو يرشقونه، على أقل تقدير، بنظرات يتوقف لها القلب ويقشعر البدن وينفطر الفؤاد ، والمسكين لا يدرى ماذا أذنب من ذنب او أجرم من جرم أو جر من جريرة، وانهم اذ يتصرفون هكذا بكل هذة القسوة نحوه، ينسون او يتناسون انهم هم الذين تركوه وحيدا يغالب ألم الفراق، وانين الابتعاد، وجفاف الاوبة !! لماذا كل هذه القسوة، وما الذى أحدث كل هذا التغيير الكبير وصنع هذه الجفوة ؟!
* كنا فى السابق نتوسل بالدموع ليبقى الحبيب او العزيز اذا انتوى السفر، ثم اذا أصر على السفر نتأوه مع سيد خليفة .. ( يا مسافر وناسى هواك ، ارواحنا وقلوبنا معاك ) ، ونغزل له مع وردى منديل حرير حتى يعود، وعندما يعود نغنى مع ابراهيم عوض ونتثنى .. ( ليالى لقانا جميلة ) !!
* الآن، صار( العزيز) كالغريب اذا سافر، وكالطريدة اذا عاد ، ولم يبق الا ان نصرخ فيه بأعلى صوت .. ( ارجع بلدك، ولملم عددك ، يا غريب يلا لى بلدك )، وكأنه من بقايا الاستعمارالذى أقض العطبراوى مضجعه بالاغانى الوطنية الفريدة، فلماذا هان الحبيب والعزيزوالقريب والصديق فى نفوسنا .. وصار بعيدا كالغريب ؟!
drzoheirali@yahoo.com
مناظير – صحيفة السوداني – العدد رقم: 1219 2009-04-15