كان نصيبي التذكرة رقم (45)، أخذتها وصعدت إلى متن البص، لم تكن الأرقام مثبتة على ظهر المقاعد بل كتبت على الرف الأعلى، بحيث لا يمكن أن تفرق بين المقعدين 44 و45، لم أتردد في اختيار المقعد جهة الشباك، فما إن جلست حتى جاءني شاب يتوكأ على عصا بدا أنه يتعافى من آثار حادث، قمحي اللون يذهب إلى الأربعنييات بصخب، قال لي مباشرة (أنت تجلس على مقعدي)! قلت: بل هو مقعدي، ارتباك كتابة الأرقام جعلنا ندخل في تراجيديا مغالطات أمام سمع ومرأى ركاب البص، رأيت أن انسحب لأكون الأكثر عقلانية، فقلت له “لقد تنازلت لك عن مقعد الشباك، فتعال اجلس”، قال “لن أجلس حتى تعترف أنك لم تتفضل علي بشيء، بل هو استحقاق تذكرتي”! وبرغم أني أنتمي لقوم قيل فيهم ذات يوم مفصلي “أكان لاقاك الانقريابي والدابي اقتل الانقريابي وخلي الدابي” فرأيت أن أستعصم بمزيد من الاحتمال، فقلت له “بأي صورة تريدها وترضيك اجلس على المقعد”.
*وأزمة هذه الرحلة لم تكن في فقدي (لمقعد الشباك)، إذ لم يكن في هذا الطريق إلا الصحراء ورجال المرور، كما لم أكن من (جمهور المتمبكين)، ولكن تكمن الخسارة في فقدان (رفيق الرحلة)، وقديماً قال أهلنا (الرفيق قبل الطريق)، فهذه الرحلة الجدباء تحتاج إلى بعض سمر وقصص وحكايات تقلل من وطأتها ومشقاتها وكآبة المنظر.
*فلما وضعنا مصفاة الجيلي وراء ظهورنا حتى أتى المضيف وسلمني كوبين فارغين على اعتبار أن الآخر يخص جاري جهة الشباك، رأيت أن أسجل حسنة أخرى، فبادرت بوضع الكوب أمامه، ثم لم يلبث أن أخرج الرجل صحيفتي التي أعمل بها، فظللت أراقب مطالعته حتى أتى على الصفحة التي بها عمودي (ملاذات آمنة) لحظتها سألته: هل يقرأ دائماً هذه الصحيفة؟، قال: هي صحيفتي وأقرأ لمجموعة من كتابها، ذكر منهم أبشر الماحي، قلت له أنا (صاحب هذه الملاذات)، لم يملك إلا أن يأتيني بالأحضان، ثم قال لي “أرجو أن لا أكون قد أخطأت في حقك، قلت انت لم تفعل شيئاً سوى أنك كنت قاسياً في أخذ حقك! ثم عالجنا هذه الأزمة بضحكة مجلجلة وذهبنا في طريقنا”..
*أنا أستدعي من هذه الواقعة قول جليس (بأنه مقعده وأنا لم أتفضل عليه بشيء)! والشيء بالشيء يذكر، أستدعي هذه الواقعة بمناسبة (ندوة الحزب الشيوعي) الأخيرة التي اجتمع ثوارها ومتحدثوها بأنه على المؤتمر الوطني أن يعترف بأن هذه الحريات قد انتزعت منه انتزاعاً ولم تكن مكرمة، بل أوشك القوم، قوم الشيخ الخطيب، ألا يجلسوا على مقعد الحريات إلا بعد أن يعترف المؤتمر!
*ستحتاج هذه الأحزاب، والحال هذه، لإنفاق المزيد من الوقت حتى تتجاوز (مرحلة شتيمة المؤتمر الوطني) إلى تقديم الرؤى والبرامج، لن يأتي بجديد الذي يفتأ يرجم الآخرين فيفترض أن نذهب خطوات للأمام.
*الذين يقرأون هذه الزاوية، ربما يذكرون دعوتنا المتكررة للإخوة في المعارضة، لكي يتصرفوا على أنهم (الحكومة البديلة المرتقبة)، وألا يساهموا في انهيار الدولة التي يفترض أنها ستؤول إليهم.
*مخرج.. لو أنفقت المعارضة أطناناً من الشتائم فإنها لا تعدل بناء جسر واحد، نحتاج أن نتعرف على برنامج المعارضة التنموي، وذاكرتي لا تحتفظ (بكيلة فيتريتة واحدة) أنتجها اليسار منذ الاستقلال! الإسلاميون عندما لم يكونوا حاكمين أنتجوا بنوكاً وشركات ومشاريع ومنظمات دعوية وتربوية، مهدت لهم الطريق فيما بعد .
*ولنا عودة بحول الله وقوته…
ملاذات آمنه – صحيفة اليوم التالي
[EMAIL]Malazat123@gmail.com[/EMAIL]