بلغت حرارة الحوار حول الحوار الوطني ذروتها، في لقاء مفتوح بين السيد نائب رئيس الجمهورية ورؤساء تحرير الصحف ليلة الخميس، عندما استضاف الأستاذ حسبو محمد عبد الرحمن نائب الرئيس ورئيس القطاع السياسي بالحزب الحاكم، رهطاً كبيراً من القيادات الصحفية لاستكناه وملامسة العلاقة بين الصحافة ودورها ومتطلبات الراهن السياسي ومساهمتها فيه، وكيف يمكن أن يكون للصحافة إسهام بناء وفاعل في دفع عملية الحوار الوطني بين كل الشرائح الاجتماعية.
اللقاء كان صريحاً للغاية، والحديث كما قال رؤساء التحرير أنفسهم توفرت فيه مكاشفة غير مسبوقة، حيث تحدثت الصحافة على لسان قياداتها عن كل شيء وأي شيء، وسمع نائب الرئيس كل ما لا يكتب وتسود به الصحائف كل صباح، ولم يستنكف أي من الحضور في طرح كل ما عنده حول أهم قضية وتوجه تشهده البلاد، قد يفضي إلى حوار حقيقي وتفاهم، أو يؤدي في حال تعثره وفشله، إلى أوخم العواقب.
ومن الطبيعي في مثل هذه اللقاءات التي تتسم بطابع حميم غير رسمي، أن تثار فيها أسئلة السياسة والأوضاع في البلاد بشكل مختلف، وتكون الإجابات حولها بذات مستواها ومقدارها في الوضوح والصراحة.
٭ ونشهد جميعاً أن الصحافيين كانوا انتقاديين حساسين مشفقين على مسألة الحوار وكيفياته ومداه وأهدافه ونتائجه المتوقعة وما وراءه، وفي نفس الوقت كان نائب الرئيس شفافاً للغاية، فقال كل ما يمكن قوله ولم يخف معلومة ولم يكتم حقيقة تساعد على فهم ما يدور ويجري، وكثير من شؤون السياسة تلتبس على المتابعين والمراقبين وعامة الناس، إن لم تجد تفسيرات تشرح ما خفي فيها وما غمض من صورتها العامة.
فالحوار الوطني ومبادرة الحزب الحاكم الإصلاحية برغم مشاركة ثلاثة وثمانين حزباً من أصل بضع وتسعين تنظيماً سياسياً مسجلاً، وامتناع عشرة أحزاب معارضة وعزوفها عنها، مازالت تواجه تساؤلات عميقة وحاضرة لدى الرأي العام، إما تشككاً في جدواها ومراميها ومقصوداتها، أو تخوفاً من عدم إدارتها جيداً وتبيين حقائقها فتفشل وتخفق.
فالحكومة كما قال نائب الرئيس بادرت بإطلاق الحوار وفكرته دون أن تحدد شكله ومضامينه، ودعت الجميع إليه لوضع الأسس المتفق عليها والانخراط في مناقشة المحاور الرئيسة حوله لانتشال البلاد من حالة القطيعة السياسية إلى التواصل الذي يمكن أن ينتج توافقاً ما، يجعل البلاد تعبر فوق أزمتها ومحنها.
وترى الحكومة كما قال السيد حسبو أنه لا مناص من دخول الجميع سواء أكانت الأحزاب والنخب السياسية والقوى المجتمعية الأخرى، ساحة الحوار الوطني والإسهام فيه، والصحافة لها دور لا بد أن تلعبه كشريك أصيل في عملية صناعة الرأي العام وتشكيل مواقفه واتجاهاته لبلورة رؤية وطنية وسودنة الحلول في قضايا الخلاف السياسي والاتفاق على الثوابت الوطنية والتداول السلمي للسلطة وإيقاف الحروب وإشاعة السلام وتعميق الإحساس بضرورة التحاور في المصائر الوطنية.
ومقابل ذلك، قالت الصحافة كلمتها، إن الثقة ضرورة لازمة وواجبة لإنجاح الحوار كخيار وحيد أمام السودانيين، إذا لم تتوفر هذه الثقة بين المتحاورين، وتصمم الشعارات والبرامج ملبيةً لرغبة الشعب وتعبر عن حاجاته وقضاياه وهمومه، فلن تعبر نوق الحوار الحالي أي بيد ومفازة ووهاد.. وستضيع فرصة ثمينة ولحظة تاريخية حاسمة أخفقنا في الإمساك بها والتقاطها.
ولذا يتطلب الحوار الثقة والاعتراف بالآخر والتعامل معه وتقديم كل ما هو متاح من تنازلات تجعل هذا الآخر قادراً على التعاطي مع موجود الحوار نفسه، ومن المقلق أن ينظر كثير من المواطنين إلى الذي يجري وكأنه لا يعنيهم في شيء، وانتبهوا لمعاشهم وظروف حياتهم الضاغطة وتركوا السياسة وقضاياها للساسة فقط يتحركون ما على الساحة كيف يشاءون!!
وهنا تكمن أهمية أن يكون الخطاب السياسي للحكومة والمنخرطين في الحوار الوطني قريباً من هذا الحجاب الحاجز حتى يزال، ويتواضع الناس على فهم مشترك.
المهم في هذا اللقاء أن الحكومة قالت كل ما عندها، بكل صراحة ووضوح، وحددت ماذا تريد وكيف تنظر لدور الإعلام والصحافة في تركيب الواقع الجديد، وقالت الصحافة كل ما عندها، وتأسس حوار جيد بين الجانبين يمكن أن يتواصل وسيفضي إلى تقاربات بناءة وخلاَّقة لصالح الحوار الوطني.
أن تعيش لتحكي
سيسيل مداد كثير حول جبرائيل غارسيا ماركيز الروائي الكولمبي العالمي الحائز على جائزة نوبل للأدب عام 1982م، الذي اختفى عن الوجود وغاب تماماً برحيله عن سبعة وثمانين عاماً أول أمس، بعد أن أنفق نصف عمره في الحكي للناس، بلغة وأسلوب جديد وخيال، رسم ملامح منهاج جديد في الأدب الروائي ما يسمى الواقعية السحرية، وركز كما كتب أمين حسن عمر كمثقف وقارئ قبل ثلاثين عاماً في مقال له، أعمدة لصرح أدب عالمثالثي كان قد بزغت شمسه بظهور روايات وقصص هذا الكاتب الفذ، متخذاً من بيئته المحلية وقريته وتصوير الحياة ما بين المشاعر الإنسانية المضطربة والتاريخ والخيال الواقعي والحرب والدم والهزيمة والعجز والحب واليأس، اتخذ منها جميعاً منصة انطلق بها إلى عالميته وإلى عقول وقلوب مئات الملايين من القراء في العالم بمختلف اللغات، وصارت شخصياته التي التقطها من الواقع ودفق فيها سر الحياة تعيش بين الناس وتحس بأنها نابضة تخفق عروقها، وسيجعل النقاد من وفاة ماركيز مناسبة عظيمة للحديث عن هذا المداد والخيال المدهشين، وقد خلدت قصصه ومروياته والشخوص التي صنعها وأبدعها كشعاع يضيء على الحياة بكل جمالها وقبحها وصراعها، فكل ما فعله ماركيز أن غمس سنان قلمه في قارورة الحياة وكتب بمدادها هذ الفن الرفيع حتى لكأن قدرته الفائقة في التوصيف لدقائق الأشياء والأفعال هي صور فوتغرافية حية لما أبصره وجسده وصوره.
والنبوغ المفاجئ لصحفي جاء من قرية فقيرة ومجتمع معدم إلى أرصفة ومقاهي عاصمة كولمبيا تحول لروائي ضخم، لم يكن يعتقد أنه سيقدم شيئاً مفيداً عندما كتب محاولاته الأولى، مثل هذا النبوغ يعطي الأمل لكثير من المبدعين المنسيين في قارعة دروب الحياة ممن يتأبطون إبداعاتهم خوف عرضها على الناس والقراء.
في كل العالم يجمع القراء والنقاد على سمات الرواية عند ماركيز، ويفاضلون بينها في أيها أرفع مكانة، هل هي «مائة عام من العزلة» أم «الحب في أزمنة الكوليرا» أو «خريف البطريق» أم «الجنرال في متاهته» أو «ليس لدى الكولونيل من يكاتبه» أو «ساعة نحس» أو «سرد وقائع موت معلن» أو «حالة اختطاف» أم «قصة بحار تحطمت سفينته» أم «أوراق ذابلة» أم قصصه القصيرة التي جمعها في «اثنتا عشر قصة منسية» أو «غانياتي العزيزات».
لكن بوجه خاص يرى كثير من قراء ماركيز أن أروع ما كتبه على الإطلاق قصة حياته الحقيقية في مذكراته «أن تعيش لتحكي»، فهي قمة الامتاع والصراحة والسخرية والوصف وتتبع الحياة.
[/JUSTIFY]
أما قبل – الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة