الاعتقاد السائد أن أمريكا بعد أن أحكمت سيطرتها على الفضاء بأقمارها الصناعية وسفن التجسس التي تجوب السماء وغيرها من تكنولوجيا العصر ، لم تعد في حاجة إلى قواعد عسكرية على الأرض أو وجود بشرى مسلح في الدول الأخرى ، ولهذا كانت المفاجأة عندما أشترطت واشنطن لتطبيع علاقاتها مع الخرطوم السماح لها بإنشاء قاعدة عسكرية في السودان ، وهو ما قاله مستشار رئيس الجمهورية مصطفى عثمان إسماعيل خلال اللقاء التفاكري الذي نظمه مكتب الصحفي برئاسة الجمهورية يوم الأربعاء الماضي.
لقد ترك هذا الشرط ظلالاً كثيفة على موجة التفاؤل التي سادت منذ أسبوع عندما طالب (غرايشن) المبعوث الأمريكي إلى السودان حكومته بإلغاء العقوبات الاقتصادية ضد السودان ورفع اسمه من قائمة الإرهاب، واعتقد الكثيرون أن سياسة الإدارة الأمريكية الجديدة بقيادة (أوباما) بدأت تثمر ، ولكن سرعان ما انطفأ بريق التفاؤل، عندما استبعد ذلك دينق آلور وزير الخارجية في ذات المنبر الذي استضاف الدكتور إسماعيل بأن إلغاء العقوبات يتطلب تغيير قوانين لا يقوم بها إلا الكونغرس ولا تقررها الإدارة الأمريكية حتى وأن أصبح السودان مقبولاً لديها ، وأضاف أن في الكونغرس أعضاء لهم مواقف ضد السودان.
وقبل أن يفرغ المراقبون للشأن السوداني الأمريكي من تقييم ما صدر عن العاصمتين حل في الخرطوم وفد من الكونغرس الأمريكي وبدأ نشاطا مكثفاً بعقد اجتماعات مع نائب الرئيس على عثمان محمد طه و مساعد الرئيس الدكتور نافع علي نافع ومستشاري الرئيس الدكتور غازي صلاح الدين والدكتور مصطفى إسماعيل ، وغادر الوفد في سرعة متناهية إلى الفاشر وجوبا للإطلاع على وجهات نظر قيادة (اليوناميد) وحكومة الجنوب ، وبينما هذا الزخم يتصاعد تراجع (غرايشن) عن موقفه وقال إنه يعارض تخفيف العقوبات على السودان ، ويبدو أننا فسرنا موقفه السابق بأكثر مما يحتمل وإنها كانت مجرد تحية عابرة كما يفعل مدير السجن عندما يمر على المعتقلين السياسيين ويبادلهم الابتسامات بينما يدرك هم وهو بأنه لا يملك إطلاق سراحهم ولم يكن مسئولاً عن اعتقالهم. إن الكثير من الدول أدركت صعوبة الدوران مع الفلك الأمريكي فتوقفت واستسلمت ، وأخرى كابدت حتى تخلصت منه ، ومثال ذلك عندما قام الفريق عبود خلال زيارته لأمريكا بالمشاركة في واحد من أهم برنامج الزيارة وهو اجتماع في وزارة الدفاع الأمريكي (البنتاغون) مع ضباطها العظام في غرفة مظلمة إلا من خارطة مضيئه للسودان ، وكان يجلس إلى جانبه أحمد خير وزير الخارجية وخلفه محجوب عمر باشري مترجم القصر ، وبدأ أحد الضباط الأمريكان يشير بعصاة إلى مناطق في السودان لتكون قواعد عسكرية ولم يبد الرئيس اعتراضاً ، ولكن عندما أشارت العصاة إلى نقطة بالقرب من الحدود مع مصر ، همس أحمد خير في إذن الفريق عبود قائلاً (احذروا عبد الناصر) وهنا انتفض الرئيس صائحاً… لا.. لا، وفجأة وبدون نقاش تمت إضاءة الغرفة و أعلن أحد الضباط ختام الاجتماع ، وعاد الوفد إلى مكان إقامته ليكتشف أنه تم تغيير برنامج الزيارة من أساسه بجولات في مدينة (وولت ديزني) للألعاب ومزارع لتربية الأبقار .
وبالمقابل فإن نظام نميري رغم أنه كان مسايراً لأمريكا إلا أن هذا لم يشفع له عندما حانت ساعة التغيير لأنه لم يحقق لأمريكا حلمها الذي لم منذ نصف قرن بإقامة قاعدة عسكرية لها في السودان ، ولهذا رفضت طلبه وهو في زيارتها والانتفاضة قد اندلعت ضد نظامه بأن توفر له طائرة صغيرة تقله إلى (دنقلا) وقال إنه من هناك قادر على الزحف نحو الخرطوم وإخماد الثورة.
المعلومة عن موقف الرئيس عبود نقلها لنا باشري في حينها ولهذا كان احمد خير يردد حتى وفاته ، بأنه شاهد شخصياً الحراس الأمريكان السود الذين كانوا يرافقون الدبلوماسيين إلى وزارة الخارجية بالخرطوم وهم داخل سياراتهم ويرتدون (الجلاليب) ويعتمرون الطواقي يقومون من الشوارع الخلفية بتوجيه المتظاهرين في أكتوبر للابتعاد عن النقاط التي تتمركز فيها الشرطة ، و كما عرفنا من خلال محاكمات بعض رموز مايو ، فإن المسئولين من المخابرات الأمريكية بالخرطوم رفضوا تقديم أي مساعدة للنظام تنقذه من الانهيار.
من هنا فإن علينا أن نتعامل مع أمريكا من ثوابتنا وأن لا نخضع هذه الثوابت لأي متغيرات نتخيلها كلما مر بلادنا زائر أمريكي وان نتشبث بها مهما كان حجم المتغيرات في الإدارة الأمريكية.
المصدر :الرائد