لم يكن حفر القبور مهنة يتكسب منها الناس في معظم الدول العربية، فقد كانت العادة، وفور حدوث أي وفاة أن يتوجه رجال أقوياء البنية وذوو خبرة إلى المقابر لحفر وتجهيز القبر وإعداد الطوب اللازم لإكمال الدفن، بينما يقوم آخرون بغسل جثمان المتوفى وإلباسه الكفن، قبل التحرك به نحو المقابر محمولا على الأكتاف، أما اليوم فقد صار هناك حفارو قبور محترفون يتقاضون رواتب من السلطات المحلية، بل إن غسل الموتى أيضا تحول إلى مهنة مدفوعة الأجر في عدد من البلدان العربية، ولكن عندنا في السودان لم تتحول أمور مواراة الموتى إلى مهنة بعد، فحتى في المدن الكبيرة، تجد في كل حي ومنطقة رجالا ذوي مروءة يتصدون لأعمال حفر القبور وغسل وتكفين الموتى، وفي كل حي أيضا نساء متخصصات في غسل الموتى من النساء، بل يتم إشراك أقارب المتوفى من الدرجة الأولى في عملية الغسل، ومع هذا تجد في كل مقبرة رجلا أو أكثر يقيم بشكل دائم في المقابر (غالبا في المسجد الذي تسجى فيه الجثامين للصلاة عليها).
وكان في مدينة الخرطوم بحري رجل ضخم الجثة لا تراه إلا في المقابر أو مستشفى المدينة، وكان يكرس كل وقته وجهده لدفن الموتى، ولم تكن هناك جهة ما تمنحه راتبا أو مكافأة «بالقطعة» بل كان بعض أهل المدينة يقدمون له المؤن الغذائية والملابس، ويحرص العشرات على تقديم هبات نقدية له في عيدي الفطر والأضحى، وأذكر أنني ذات مرة كنت ضمن مشيعي جثمان عزيزٍ راحل تربطني به صلة رحم، وكان الليل قد حلّ، وعندنا في السودان، نقوم بدفن الميت فور خروج الروح، ولا يهم ما إذا كان الوقت فجرا أو ظهرا أو منتصف الليل، فعند حدوث الوفاة يتم الاتصال الفوري بكل الأقارب والجيران وأصدقاء المتوفى، ليشاركوا في الدفن، وأثناء سيرنا بالجثمان في ظلام دامس لا يتخلله إلا ضوء هزيل ينبعث من مسجد بعيد يتوسط المقابر، رأيت كتلة بشرية تتحرك نحونا في الظلام، فتقهقرت إلى الصف الخلفي، ثم أدركت أن «ظهري مكشوف»، وبي منذ الطفولة خوف من المقابر وخاصة في الليل وأتوقع أن يمسك شخص ما برجلي وأنا أسير بين القبور، فتقدمت وتوسطت المشيعين، واقترب منا ذلك الكائن الهلامي وسمعته يطلب من وفد المقدمة أن يتبعوه حتى يدلّهم على موقع يصلح كقبر، ثم فارَقَنا وتوجه نحو المسجد حيث أضاء كشافا قويا هزم جانبا من الظلام، وكان كل ما تبادر إلى ذهني لحظتها: هذا الرجل يقيم في المقابر ليلا، وبإمكانه أن يبقي كشافات المسجد مضاءة حتى لا يبقى في الظلام وسط الموتى وخاصة أن كهرباء المقابر مجانية، فلماذا يبقى في الظلام؟ إما أنه شخص غير طبيعي وإما أنه أشجع الرجال، وحتى مغادرتي الخرطوم بحري مهاجرا إلى الخليج كنت أخاف من ذلك الرجل حتى لو التقيته نهارا في مستشفى، ولو قال لي: تعال، لأي سبب من الأسباب لدخلت في غيبوبة قبل أن أكمل ترديد الشهادتين.
والآن أقول بأعلى صوتي إن أرجل الرجال هو حفار القبور، الذي يقيم بصفة دائمة وسط القبور، فهو ليس فقط في حالة تصالح مع الموت وقبول لفكرة حتمية الموت، بل يقوم بعمل يعجز معظم الناس حتى ذوو اللياقة البدنية العالية عن القيام به، بل أعتقد أنه لا يضاهيه شجاعة إلا الجندي في ساحة القتال، الذي يعرف أن احتمالات مقتله عالية والذي يرى زملاءه يتساقطون من حوله ولكنه يكتم حزنه ويبقي إصبعه على الزناد.
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]