ظلت والى وقت قريب ثقافة العيب والمسكوت عنه عبئا يختزنه تاريخنا الاجتماعي وميراثا ثقيلا تتناقله الاجيال دون ان يكون لاحد الجرأة علي اختراق سكونه او الخوض فيه صراحة اوحتي تلميحا وذلك لارتباطها بموضوعات وقضايا مفرطة الحساسية ربما يؤدي طرحها ومناقشتها الى النيل من مصداقية وصدق مجتمعات الاسوار المغلقة التى تهيمن عليها سياسة التكتم والعزلة النفسية واستراتيجية ايثار السلامة وتجنب التصادم مع المجتمع.
وبالرغم من عدم وجود كتابات علمية عن القضايا المسكوت عنها الا انه يمكن تعريفه بالتسليم طواعية او كرها بعدم الحديث او اعادة دراسة الكثير من الوقائع والاحداث والمفاهيم المستورة و المخفية بسبب الخوف من المجتمع، على اعتبار ان ذلك الموقف اوالسلوك يندرج ضمن المحرم اجتماعيا وتتحول بذلك العديد من الموضوعات والقضايا الى دائرة المسكوت عنه فيلفها الغموض والخفاء ويرفض المجتمع استدعاءها وجعلها فى دائرة المتاح اخذا وعطاء ،وفى محاولة استقرائية لتلك الثقافة وللاثار المترتبة على الحركة الاجتماعية والبناء الاجتماعي الكلي وعوامل بناء الشخصية سلطت دكتورة مكية جمعة أحمد همت استاذة الخدمة الاجتماعية ومديرة معهد دراسات الاسرة بجامعة امدرمان الاسلامية الضوء على هذه القضية كمحاولة منها لتحريك المسكوت عنه من دائرة المحظور الى الممكن للاسهام فى رفع الوعي المجتمعي وتمليكه مهارات حوارات الصراحة حول القضايا المحرم تناولها او تداولها خارج اطار المسموح.
وتري الدكتورة ان العامل الجغرافي والتنوع المناخي والحدود المشتركة والعامل التاريخي والمكون القبلي والعرقي بجانب العامل الديني والثقافي والاجتماعي ساعد على تشكيل ملامح الشخصية السودانية التي يستمد افرادها تميزهم من كونهم اعضاء فى جماعة ينتمون لها ويلتمسون حمايتها وعلى اساس ذلك يكون سلوكهم ذا دوافع اجتماعية غايتها التمسك بالجماعة وتدعيم سلطانها مما يولد حسب مكية التناقض بين الانتصار لقيم الجماعة وبين الخروج والتمرد عليها فى ظل علاقات تسلطية ومجتمع نظامي تسوده الاوامر والنواهي والمنع والتحريم ونمط تربوي قائم علي انعدام الحوار والحرية والشفافية مع الذات والاخرين خاصة فى مساحات الاسرة التى تمارس سلطات القهر الاجتماعي والتعسف ومصادرة الحقوق الخاصة والعامة داخل البيوت .
واستهلت مكية دراستها التحليلية السوسيوثقافية التى نوقشت فى منتدي مركز التنوير المعرفي امس بقضايا ومشكلات الحياة الاسرية على اعتبار ان الاسرة مؤسسة اكثر خصوصية فى البناء الاجتماعي مما يصنفها كاكبر المؤسسات المحاطة بثقافة الصمت خصوصا فى الموضوعات المرتبطة بالامور الجنسية والتي تبدأ باكرا من خلال التكتم حول التربية الجنسية التى تأخذ ابعادا اخري حسب حديث الدكتورة كالقهر الذي تواجه به تصرفات الاطفال التلقائية عندما يعبث احدهم باعضائه التناسلية او يسأل ببراءة عن بعض الجوانب التى يصنفها المجتمع فى نطاق العيب الذي يمتد الى ابعد من ذلك ويأخذ اشكالا من الحرج والغموض وربما الكذب الذي يتعامل به ذلك المجتمع مع الاطفال والمقبلين على الزواج فلا احد يدعم اتجاهاتهم بشأن الاستفسار والتنوير بشأن الموضوعات المتعلقة بالثقافة الجنسية، اما فيما يتعلق بالازواج فتشير مكية الى انعدام الصراحة والشفافية خاصة فيما يتعلق بالاشباع العاطفي والجنسي بين الطرفين او احدهما وهو ماتعتبره عاملا مؤثرا وبشكل كبير على الصحة النفسية وعافية العلاقة الزوجية التى ينبغي ان تتميز بالاشباع بين الطرفين اضافة الى ذلك قضايا العجز الجنسي وتأثيرها على استمرارية الحياة الزوجية نتيجة سيادة ثقافة العيب والصمت بجانب التحرش الجنسي والاغتصاب داخل دائرة الاسرة «المحارم » والادمان والاصابة بنقص المناعة المكتسبة وغيرها من الامراض الاخري النفسية والعقلية التى اعتبرتها داخل نطاق المسكوت عنه .
وانتقلت الدكتورة بعد ذلك الى الحديث عن الحقوق المالية فى اطار الاسرة «الميراث» وحملت ثقافة العيب مسؤولية المظالم التى تحدث داخل الاسرة التى تغلب عليها السلطة الذكورية وسيادة نمط التفويض القهري وفق الثقافة السائدة بسيطرة وهيمنة ذكورية على ادارة الاموال وان كانوا دون الكفاءة والمسؤولية .
كما حذرت مكية من تأثير مظاهر الانغلاق الاجتماعي الذي يفرضه المجتمع فى احداث ارتباك عميق فى جيل المستقبل فى ظل عالم متفتح وعصر سريع الايقاع مع وجود كم هائل للتداخل والمعرفة ونقل المعلومات من خلال التقنيات والوسائط كما حذرت من استمرار المشكلات والسلوكيات الشاذة والمرضية الموجودة داخل الاسرة، وقالت ان استمرار تلك السياسة ينطوي على مخاطر عديدة ، وتساءلت عن العلاقة بين ثقافة العيب والحياء الذي يحتمي به المجتمع لاكساب الشرعية فى مصادرة حق الحديث فى الامور التى يري المجتمع انها تدخل ضمن اطار المحرم اجتماعيا.
وخلصت مكية فى ختام دراستها الى وجود ارتباط وتلازم بين البناء الاجتماعي والشخصية والمنظومة الثقافية التى تصاغ بتفاعل مكونات ووحدات هذه التغيرات الثلاثة من خلال عمليات التنشئة واساليب التربية المختلفة التى تمارسها المجتمعات على افرادها ضمن معايير وموجهات توافق مكتوب او غير مكتوب والتي تعبر عن نفسها فى انماط الثقافات الحاكمة للتصرفات والافعال وتصبح سمات وخصائص للمجتمعات مع تقادم الأزمان بجانب نقطة اخري اوردتها مكية وهي ارتباط ثقافة المسكوت عنه بالبعد الاخلاقي و التنشئة الاجتماعية الذي يدخل ضمن مكونات معاني الاخلاق من خلال سلطة الوالدية والسلطة الدينية التى تتعامل مع القضايا الواقعية بحساسية وتمارس ضغوطا باوجه متعددة ومن اتجاهات مختلفة مما يضاعف مخاطر المسكوت عنه فى ظل تبلور اساليب الاستلاب غير الاخلاقية فتتحول قوة المسكوت عنه الى الغام ذهنية تؤدي الى الاحتماء بين اسوارها الظواهر والامراض الاجتماعية والنفسية نتيجة الضغوط .
وفى محاولة للوصول لايضاحات لتحرير المجتمع من قيود تلك الثقافات المعيقة لحركة التغيير والاصلاح الاجتماعي اوصت الدراسة بضرورة اعادة قراءة النظم المألوفة والقائمة فى المجتمع وتفكيكها واعادة انتاجها من جديد بما يتلاءم والحياة الاجتماعية الحديثة دون تخطي الثوابث والقيم الاخلاقية بجانب العمل على نشر الوعي فى المجتمع للتصدي لثقافة المسكوت عنه وتشجيع الاتجاهات التى برزت فى المجتمع مؤخرا فى نشر خدمات الارشاد الاسري والعمل علي توعية الاسرة باللجوء للاستشارات المتخصصة .
سارة تاج السر :الصحافة