أتوقف اليوم في محطة الطب النفسي، ومنذ ضربة البداية أقول إنه سبق لي استشارة أطباء نفسانيين ثلاث مرات، وكانت الاستشارات خيرا وبركة كما تقول العبارة الدارجة، بمعنى أنني استفدت مما قاله لي أولئك الأطباء، وتغلبت على مشكلات بسيطة كان من الممكن أن تتفاقم لو لم أجد النصح السليم، وسيتبادر إلى أذهان البعض أن أبا الجعافر اعترف أخيرا بأن «مخه مش تمام»، وحقيقة الأمر أن مخي لم يكن «تمام» قط، تماما مثل مخك، فالمخ التمام مثل جمهورية أفلاطون، أي «في الأحلام»، هذا بالمفهوم الخاطئ بأن الاضطراب النفسي يعني خللا في المخ، فلا يوجد إنسان على ظهر البسيطة لا يمر بموقف يسبب له ضغطا أو اضطرابا نفسيا قصيرا أو طويل الأجل، ولكن لمعظم الناس وسائل مختلفة للتغلب على المحن والنكسات والأحزان من دون الاستعانة بطبيب، وعن تجارب متوارثة صار بنو البشر يعرفون أن الفضفضة مع أهل الثقة تريح الإنسان عندما يكون مكروبا أو مأزوما بسبب مأزق أو مشكلة، وأعلى أهل الثقة شأنا هو الطبيب النفساني، فهو «الصديق وقت الضيق»، حتى لو لم تكن قد التقيت به طوال حياتك، فهو أطول الأطباء «بالاً»، لأن طبيعة عمله وتدريبه يعلمانه قيمة وضرورة التحلي بالصبر واحترام من يجلس أمامه شاكيا أو باكيا أو حتى متوعدا يرغي ويزبد بالشتائم.
وتأتي أهمية الطبيب النفساني من كونه شخصا مؤتمنا على الأسرار، ومن ثم يثق به الناس الذين يلجأون إليه ويحدثونه عن أمور لا يبوحون بها حتى إلى أقرب الأقربين، فأهم ما يوفره الطبيب النفساني لمريضه هو الفضفضة، أي أن يخرج المريض مخزون الأسى والألم والضيق، ولهذه الشريحة من الأطباء مهارات عالية في استدراج من يلجأ إليهم للتنقيب في دواخلهم لتنظيف شبكة المجاري الداخلية المعششة في العقل الباطن، والتي «تطفح» بين حين وآخر أو بانتظام فتسبب «رائحتها» ضيقا تتفاوت درجته من شخص إلى آخر، ولهذا تجد من يستخف بالأطباء النفسانيين باعتبار أنهم «جماعة كلام والسلام»، مع أن الكلام في حد ذاته بلسم: ألا يطربك عذب الحديث؟ والشعر الجميل؟ والكلمة الطيبة؟ والتحية والسؤال عن الحال النابع من القلب؟ الإجابة عن كل هذه الأسئلة هي «نعم»، وإذا أجبت بغير «نعم»، فعليك زيارة طبيب نفسي غدا وبدون موعد مسبق، وأعمل هيصة وزمليطة في مكتب الاستقبال وستجد نفسك أمام الطبيب لتقول له: أنا مو طبيعي لأن الجمال في الأشياء والحديث لا يأسرني ولا يحرك فيّ شعرة.
وتبلغ السذاجة بالبعض أنهم يعطون الدجالين مكانة أعلى من الأطباء النفسانيين، فيظل الدجال يغذي الواحد منهم بالشخابيط والخرابيط، ويطالبه بخواتم وسلاسل ذهبية «حسب طلب الجان»، وبعد أن ينشف ريق المريض وجيبه قد يلجأ الدجال إلى ضرب المريض بزعم طرد الجني من جسده، وهو في واقع الأمر يرمي إلى تطفيش المريض المفلس ماليا، وفي المقابل فإن الطبيب النفساني، يتعامل مع كل نوع من المرض بأسلوب معين: هذا نوع من الاكتئاب لا يتطلب أكثر من تبصير المريض بمسببات علته وإرشاده إلى طرق التغلب عليها، وهذا مرض لابد من جرعات من عقار كيمائي يساعد المريض على استرداد درجة من التوازن النفسي قبل استدراجه الى مرحلة العلاج بالكلام (التحليل النفساني)، ولا يقلل من شأن الطبيب النفساني أن مرضى كثيرين يزورونه لا يستردون عافيتهم النفسية أو العقلية، ففي كل فروع الطب مناطق رمادية لا يعرف الطب عنها كثير شيء، فمن أصعب التخصصات الطبية ذاك المسمى «المخ والأعصاب» وتدخُّل المختص في هذا المجال قد يكون في «مسألة حياة أو موت»، ولكن الطب وبرغم كل الطفرات التي مر بها ما زال عاجزا عن فهم 70% من طرق عمل الدماغ.
[/JUSTIFY]
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]