أربعة أوتاد خشبية نصبت لتقف فوقها لتحميها من ملامسة الأرض.. وانتشرت من حولها العديد من الكتل الخشبية… اقتربنا منها لنتأملها عن قرب فإذا بصوت ينادينا من على بضع خطوات في اتجاه الجنوب… وبداخل راكوبته الصغيرة التي اتسعت لكرسيين وبعض المقاعد الخشبية أتيناه فنهض ذلك الشاب لأجلس مكانه على الكرسي الذي تآكلت أحد أرجله فبدأ يتأرجح في حركة أقرب لحركة تلك المراكب الخشبية على الماء.
ابتدر عم حسين نصر محمد حديثه معنا قائلاً ان السودان بنى بالمراكب والسواقى والنبرو وهذا كان قبل وجود الماكينات… واجدادنا هم أول من بدأ صناعة المراكب في منطقة أبوروف… وأخذت عنهم الصنعة فمنذ عام 1955 وأنا أعمل في صناعة المراكب والتي تعتبر الآن جزءا من تراث السودان الذي يستلزم الاعتناء به لما تمثله من شكل جميل للبلاد… ويقول عموماً ارتباط المراكب يكون مع سكان الجزر والصيادين.. وتتم صناعتها من خشب أشجار السنط الذي يأتينا من مناطق النيل الأزرق والنيل الأبيض وان توفرت المواد الخاصة بتصنيع المركب فما بين 25 يوما – شهر يكون المركب معد للانطلاق عبر النيل.. وان كان تصنيعها اصبح مرتبطاً بالطلب الذي يسير نحو التناقص..
ويبرر لذلك عم نصر بأن هناك صناعة الفلايك الحديدية التي دخلت البحر كمنافس قوي لمراكب الخشب خاصة وانها تعمل بنظام الماكينة ولا تحتاج لبذل جهد، كما ان لها ميزة التصنيع السريع الذي لا يستغرق وقتاً بخلاف مراكب الخشب، ولكنه يعود ليشير الى ان مراكب الخشب تتمتع بالرطوبة وان لها قدرة على تحمل الرياح وتقلب الأجواء.. وعموماً سعر المركب لا يزيد عن 250 ألف جنيه.
واختتم حديثه لنا عن أدواته التي يستخدمها لصناعة المراكب فقال منها الفأس والمنشار والقدوم والعواقة والبريمة والصنفرة والتمساح والقرناصة.
تركناه قاصدين عم حميدة العميري الذي افترش الأرض هو وزميله وقد وضعا كتلة من خشب السنط توسطتهما وهما يحملان المنشار في رحلة تصنيع مركب جديد يعداه للانطلاق عبر النيل الأبيض… ليقول ومنذ قرابة الثلاثين عاماً وأنا أعمل في تصنيع المراكب. وكأنما ذهنيته ارتبطت بالماضي كان لكل حديثه معنا المقارنة.. عندما ذكر بأنه وفي الزمن الماضي كان الاقبال على المراكب كثيرة واسعارهارخيصة نتيجة لرخص اسعار مدخلاتها وعلى رأسهاالاخشاب ولكن ومع التطور الحالي زادت اسعارها واصبحت صناعتها مرتبطة بالطلب فقط.. لذا قد يمر بنا الشهر والشهران دون أن يأتي من يطلب تصنيع مركب هذا بخلاف ما كان في الماضي عندما كنا نصنع المركب وقبل الانتهاء منها يأتي الطلب لمركب آخر أو اثنين ولا نكاد نلحق على طلب الزبائن.
وعن تكلفة المركب يقول عم حميدة ان المركب تستهلك اخشاب بقيمة المئةألف جنيه بالاضافة لاحتياجاتها الأخرى مثل المساجد وأجر التصنيع يصبح سعرها «ثلاثمائة ألف جنيه»..
ويعود عم حميدة لحديث الذكريات فيقول كانت مراكبنا تسير بطول النيل الأبيض إلى مابعد كوستي في الحدود الجنوبية، وحالياً محدودية حركة المراكب اثرت في محدودية الطلب والآن نشاط المراكب أصبح محدودا بالصيد بالاضافة الى مراكب المشرع المستخدمة للترحيل وتستخدم هنا للترحيل من توتي إلى السوق.. ولكن هي في حمولتها تحمل أربعين راكباً.. وان كان في آخر الخريف يتوقف نشاط تصنيعها ويعود ليتحرك الطلب بعد موسم الامطار ونحن في سوق (أبوروف) اغلب زبائنا من سكان جزيرة توتي.
وعن الزمن الذي يستغرقه في صناعة المركب يقول ما بين العشرة والأحد عشر يوماً، وكلما تسعى للعمل مبكراً تنتهي مبكراً…
تركناه ليلبي النداء الذي أتاه من أحدهم ليشارك مع قرابة التسعة رجال ما بين شبابهم وشيوخهم في حمل كتلة ضخمة من خشب السنط حتى يتم تقسيمها لاستكمال ذلك المركب.
تهاني عثمان :الصحافة