أذكر أننا كنا نتسابق لقطف هذه الثمار واكلها حتى دون أن نتكلف عناء غسلها بالماء حيث يكثر شجر الطندب بقرى سنار وربما كل ريف السودان، ورغم التحذير المتكرر للأطفال من عدم الإقتراب من هذه الأشجار حتى لايخطفهم الجن الذي يتخذها مساكن له الا ان جميع الأطفال كانوا لايلقون بالاً لهذه التحذيرات التي كانوا يعدونها تخويفاً ليس الا ويتندرون بها وهم يتقافزون خلف حشرة الخنفساء الطائرة زاهية الألوان والتي يُطلق عليها الأطفال إسم (كوكنارة)، يغني الأطفال خلفها بلحن مميز ( كوكنارة طيري وركي في العدارة)، وحالما يمسكون بها يربطون إحدى ساقيها بخيط ويحثونها على الطيران وهم خلفها كطائرة ورق صغيرة الحجم، تنتهي هذه المغامرة بموت محقق لهذه الحشرة المسكينة.
شجرة الطندب كانت هي المكان الأثير لود البراري للجلوس تحتها وجاءت تسميته بهذا الإسم لأنه يهيم على وجهه في غابة الحلة وربما في براري تلك المنطقة ويكثر الذهاب للنيل متاملاً ومفكراً وفي أحايين كثيرة يبترد من مائه عله يكون شفاءاً وطهور، يحمل الماء بكلتا يديه في صفائح كبيرة الحجم ليملأ ازيار منزلهم القابعة تحت شجرة النيم الظليلة، هدؤه يثير الريبة وملابسه المتسخة وشعره الطويل وأقدامه الحافية تجعلك تفسح له الطريق وهو يعبر مسرعاً حيث مكانه المحبب تحت شجرة الطندب، لايحمل من زاد الدنيا سوى ماء في آنية بلاستيكيه، كل ما ذهب قليلاً توقف للكتابة على الأرض ثم يمحو ما كتبه ويواصل السير نحو مقصده.
لكن من هو ود البراري صاحب شجرة الجن، لم يكن مستحيلاً عليه التفوق في دراسته وهو الذي يملك ذكاءاً خارقاً وحنجرة مميزة للغناء وفوق ذلك هو عازف ماهر للجيتار إذ كان يحي بعض حفلات الأعراس بقريته وكغيره من طلاب الريف كان يحلم بالجامعة والتحول نحو إرتياد المدن فهو من الطلاب المميزين بشهادة الأساتذة وأهله الذين يرون تفوقه ظاهراً أمام اعينهم، لكنه فجأة تحول لذلك الشرود الغريب والنظرات البعيدة، والإنزواء تحت شجرة الطندب التي لايخلف موعدها، ورغم تضارب الروايات فلا أحد يعلم ما الذي حدث تحديداً لهذا الشاب.
بعد واقعة تحوله تلك والتي أصابت أهله بالذهول وبقية أهل القرية بالحيرة أصبحت التكهنات مادة دسمة يتناولها الجميع وتتضارب الحكاوي حول هذا السر الذي لايعلمه غير صاحبه ودالبراري، فحينما يطيل الجلوس تحت الشجرة والتي لايأتي منها الا عند المغيب تتحول الحكايات نحو زوجته الجنية التي يقضي معها اليوم في الحديث والونسة الدُقاقة وحين يبتسم يعلم الجميع أنه قد وافق على مقترحاتها بالحضور باكراً دون تأخير، وعندما يضرب بيديه الهواء يتهامس الناس سراً بانه على خلاف مع زوجته بشان تربية الأطفال لأنه كان يرفع صوته رافضاً أن يتبعوه الى حيث يذهب ولعلها من المرات القلائل التي يرفع فيها صوته ويخرج عن هدوئه المعتاد ويتحول فجأة نحو شجرة الحراز الكبيرة التي تقع في نهاية الحلة ليجمع ( الخُريم) والخُريم الذي يُطلق عليه علف الغنم يتناوله الناس أيضاً لإعتقادهم بشفائه لبعض أمراض الباطن ، ورغم ان اطفال المدارس لايعرفون ماهي فوائد الخُريم ( ثمرة الحراز) إلا انهم يرمونها بالحجارة ويلتقطونها من الأرض والى افواههم مباشرة فشجرة الحراز تقع بالقرب من المدارس وتتخذها بعض النساء مكاناً دائماً لبيع الأطعمة والحلوى البلدية والزلابيا للأطفال، فظلها واسع رغم انها تجف وتنكمش في الخريف وكنت اتساءل عن سر هذه الشجرة الغريبة التي لاتحب الماء فهل هناك كائناً لايحب الماء لكن عمتي تخبرني بأن شجرة الحراز لاتحب المطر والماء وهي عكس الأشجار تكتسي لوناً رمادياً باهتاً وليس اخضراً زاهياً كبقية الأشجار في الخريف( ما سمعتي يابتي حِرب الحراز للمطر، أها المطرة تجي والخير يجي والحرازة عاملة حرابة وزعلانة من الموية لامِن الخريف ينتهي) أسألها بدهشة ممزوجة بإستنكار( كيف شجرة ما بتعرف حاجة تحارب وتزعل كمان) فتضحك عمتي ربما من براءة الأطفال وسذاجتهم التي لاتفرق بين الأشياء فتقول في حنان ظاهر (كيفن الشجرة ما بتعرف نان بتحارب كيفن وتغير جلدها وتبقى شينة عشان ما تقابل الخريف) لا أفهم شئ من هذه التبريرات لكنني أُومئ برأسي موافقة ومتفقة.
شجرة الحراز هذه كانت هي الصديقة الثانية لود البراري بعد شجرة الطندب، خاصة في إجازة المدارس حيث يقل الجلوس تحتها والمرور بها، يجمع الخُريم ويتجه صوب شجرته الأثيرة، ( ودالبراري كيف أصبحت يازول ها مالك منكرب كدي إنمهل شوية) يناديه أحد الرجال مشاغلاً لكنه لايعيره إهتماماً ويواصل حيث زوجته الجنية، يجلس متجهاً عكس إتجاه الشمس ويتحول مع الظل الى ان تقل حرارتها، يستلقي حيناً ويجلس القرفصاء حيناً آخر لكن لم يراه أحد نائماً.
حكاية ود البراري تتمحور حول الجنيات وحقيقة هذا العالم الغريب الذي لايدخله أحد ويخرج منه سالماً، وتساءلت أكثر من مرة ما هي حقيقة ودالبراري هل تحول لجني هو أيضاً أم أنه إنسان دخل عالم الجن ولم يحتمل ما رأه فأصبح هائماً على وجهه بلا هدى، وقادني هذا التساؤل لأمر آخر هو هل هناك تزاوج بين الإنس والجن وهل هناك أطفال وذرية نتيجة لهذا التزاوج وهل يكونون مرئيين ام انهم كعالمهم الخفي، وكيف يكون التواصل بين هذين العالمين عالم الجن والإنس؟! أنه يقول أن أولاده يسافرون الى مختلف مدن البلاد، لكن ما يعلمه الجميع أن ود البراري لم يغادر قريته أبداً.
كثيراً ما لفت نظري وانا صغيرة أستمع مع أقراني لحكايات فاطنة السمحة وود النمير والغول الذي كان يرغب بالزواج من فاطنة السمحة قبل ان يقضي عليه ودالنمير بعد رحلة مغامرات طويلة كمغامرات سوبرمان البطل الذي لايُهزم!!. كنت ألح على عمتي في السؤال ( لكن يا عمتي في غول بيعرس ليهو انسانة؟) فترد عمتي( دا زاتو يا بتي البقولو عليهو كضباً كاضب، ان عرسا دحين ما بجيب منها شُفع، شن جاب البعاعيت للناس، الأكرمن الله بالخلقة السمحة، والمعاملة السمحة، لكن دا حُجى ساكت)، لكنني توقفت كثيراً عند حكاية ودالبراري وحقيقة ارتباطه بجنية من عالم الجن والعفاريت ، وأنها كانت تُلح عليه في الإتساخ حتى لاترغب به إحدى بنات حواء وقلت في نفسي ياترى هل يغار الجن كما الأنس، لم أجد إجابة لكن لاتزال حكاية ود البراري مع جنيته تتواصل وبرنامجه اليومي لايتغير رغم تعاقب السنين وتغير الأحوال فإن ودالبراري أصبح احد علامات القرية المميزة ولم يفقد قوته فهو لايزال يساعد في زراعة الأرض وحصاد الزرع وجلب الماء أحياناً لكن يبقى برنامجه العام كما هو وان إختلفت بعض التفاصيل.
حكاوي عن الشخوص والأمكنة
aminafadol@gmail.com