كان في نيتي أن افتتح مشاويري بتورنتو قبل مقابلة الأطباء بزيارة قبر المرحوم كمال شيبون ، ذلك السوداني الوحيد الذي لم يتجنس كندياً ، لكن الثلج أبى وعبس في وجهي وواصل إنفلاته في التهافت على المدينة. كان ثلج هذا العام ولا يزال حديث القنوات والإرصاد.
لم يقدر لي الله أن يكون مشواري الأول زيارة قبر أشف من أحببت وأصدق من عاشرت وأعف من رأيت بين خلقه أجمعين.
شاركوني الدعاء لهذه الروح النضرة ، روح كمال شيبون التي ما زالت تحوم حول كل براري كندا.
لم أكن أعرف من قبل أن الدكتور الواثق كمير اختار هذا المنفى ليكون مقامه الدائم بعد أن بلغ الستين ، إلاّ بعد مكالمة هاتفية منه قبل سفري ، فقد طلب مني أن أحضر له من السودان بعض الكتب الجديدة و (التمباك) فانتخبت أهم ما أصدرته المكتبة السودانية وما مطره عطار التمباك. وأنا في الطريق إليه بدأت عقد مقارنة بين هذا المنفى وبين شخصية الواثق كمير التي لا تقبل القسمة على سودانيتها ، فهو فريد وخاص وذلك أمر مزدوج الحدين.
انتمى الواثق لفكرة (السودان الجديد) في نسختها الأصلية ورفد الفكرة بالكثير من العقلانية قبل أن تصطدم الفكرة نفسها بجبل الأماتونج وتتحطم الطائرة اليوغندية فيسيل محتوى السودان الجديد ويصطحب قرنق فكرته معه إلي الغيب.
رحيل قرنق حول نظر الواثق نحو الكثير من الأشياء الأخرى فأعاد مراجعة تفاصيل الفكرة وقواها ورموزها وشخصياتها وانسيالها وإمكانية تحققها على أرضية الواقع وهي مع صاحبها في رحاب الأبدية.
هذا التحول أضاف للواثق اعتناقات جديدة ووسع صدره وأجال بصره وجعله يهتم كثيرا بفاعلية وجدوى الآخرين فظل يبحث عن الخطوط المشتركة معهم لبناء منظومة وطنية على قاعدة التفاهم ذات مرئيات ترضي الجميع.
لم تصبح فكرة تحقيق السودان الجديد في ذهن الواثق هي مهاجمة أبكرشولا ، أو الاستمساك بالفرقتين التاسعة والعاشرة والتلويح بهما للدمار مثلما يراهن آخرون مصابون بالجنون الثوري. أصبح في ذهن الواثق حوار منتج يطال كل شيء ويتسع لكل الأطياف. تجلى ذلك في كتاباته فأنا لم أقرأ نصا سياسيا بذلك البريق والتألق والصفاء والروقان مثلما قرأت في العام 2011 مقالته (طلقة في الظلام) أو مثلما قرأت العام الماضي (الكرة الآن في ملعب الرئيس) الذي اقترح فيه الواثق نفس ما أعلنه رئيس الجمهورية مؤخرا ، وأعاد عادل الباز نشر تلك المقالة المستشرفة في الشهر الماضي.
بعد البص الثالث بلغت منزل الواثق كمير الذي يحمل الرقم 11 بوسط مدينة تورنتو ، تعثرت خطاي أمام الباب لأن أكوام الثلج كانت أكبر من شوقنا في حجمها لكنها أصغر من لهفتنا للعناق.
بعد الضيافة والحوار والأنس خرجت بما مفاده : أن الواثق لا يعيش في السودان إلا في الفترات الانتقالية ، وأنه على يقين تام بأن السودان (سيتفرتك) إذا أصرت الأطراف على مواقفها ، الواثق لا يؤمن بالحل العسكري إذا كانت قواه الحركات المسلحة لأنه على يقين بأن من انتصر بالسلاح لن يهدي انتصاره لغير من حمل السلاح. وأنا في طريق عودتي لمنزلي استوثقت تماما بأنه ليس هنالك أي عاقل في قطاع الشمال سوى هذا المجنون.
[/JUSTIFY]
أقاصى الدنيا – محمد محمد خير
صحيفة السوداني