في أكتوبر قبل الماضي من العام قبل الماضي حرصت على حضور تدشين ديوان «أرضاً سلاح» الذي رعته شركة زين، في ذلك اليوم تيقنت أن محمد الحسن سالم مسنود بجمهور ومحبة ورواة، شباب غفير تجاوز الآلاف احتشد في قاعة الصداقة وحيا حميد بانفعال ورعشة، نفذت طبعة التدشين المطروحة ولم يتبقَ منها بيت شعر وحين صعد حميد للمنصة ماجت القاعة حتى دوت دوياً، كان حباً أقرب للتشنج في تعابيره وموغل في الصدق حتى الوضوح.
ظفر حميد بهذا الجمهور لأن الصدق كان عنوان تجربته وجوهرها ولأنه اختار الوقوف في صف الجوع لا بالتبني والانحياز، بل بالأصالة.. شاطره الجوعى تجربته فأصبحوا شركاء أصلاء وصار الفقر جميلاً بثراء المفردة المعبرة عنه.
بدأ حميد من حيث انتهى خليل فرح الذي حرر القصيدة العامية من قيود التبعية الرومانسية التقديرية، وأدخل الرمزية قبل السياب ونازك الملائكة والبياتي، وبنى للقصيدة قواماً ومعنى ونقر بأصابع ماهرة على رزمها فتنثرت «فلقاً وصباحاً» وشهقة جيل التف حول الاستقلال..أما حميد فقد أدخل العامية في فضاء مطلق بعد أن جردها من كل أنماط التقديرية وساقها نحو مواقع العمق دون أن تفتقد البساطة.
أدخل حميد القصيدة العامية ساحة الحداثة، فانضم باقتدار لمنظومة آباء الحداثة العربية التي استهلها الجاحظ وخلّد معانيها المتنبئ و أكمل خطاها محمود درويش، في تجربته وفّقت القصيدة العامية أوضاعها ودخلت بثوب الجمالية مناطق كانت محظورة عليها وجلست على مقعد المهني الرفيع كأروع ما تكون الجلسة.
قصيدة حميد ضجة من المفردات البسيطة والوجدان الغامض والجمالية العالية والسردية الحاكية والمعنى الأكثر ظلالاً والحميمية النافذة والشعبية المفتوحة الأبواب دون بروتكول، هي لونية محسنة البذور الشعرية والأخيلة والمعنى المستجم!! قابل جمهوره المفجوع رحيله بالوفاء النادر، كان وفاءً أشبه بعرفان أسبانيا لبول إيلوار ولويس أراغون ولوركا، ومثل دموع شيلي على بابلو نيرودا، وأفواف النخل السوامق حين بكت محمد المهدي الجواهري، ودمع الأتراك على ناظم حكمت.
جسّدت تجربة حميد الشعرية معنى المحبة للشعر وطمأنت الفتوحات الشعرية الكبرى بأن ذائقة الشعب السوداني فريدة ومجتلاة ووفية وخاطبت التاريخ مؤكدة جدل الكلمة والتلقي.
رحم الله حميد بقدر ما أحسن للمعاني الكبيرة بفيض ثرائه الشعري، فقد كان ثرياً وفقيراً، والعزاء لكل جبهة الجمال واسعة النمو والانتشار في بلد كل شيء فيه جميل.
[/JUSTIFY]
أقاصى الدنيا – محمد محمد خير
صحيفة السوداني