أخيراً حسمت محكمة التحكيم الدولية بلاهاي الهولندية حالة التنازع حول أبيي التي سادت كثيرا بين المؤتمر الوطنى والحركة الشعبية، ليسدل بالامس قضاة المحكمة الستار على القضية على الأقل في جانبها القانوني. ولكن بقدر حالة الاهتمام التي ابداها الشارع السوداني في ترقبه للقرار، الا ان القرار نفسه كان محل جدل في تفسيره ومعرفة جوانبه التى لم تتضح كثير من بنوده بعد، خاصة فيما يتعلق بتحديد المناطق التى قضي القضاة بتبعيتها شمالاً وجنوباً خاصة في المنطقة الغربية والشرقية التى قضت فيها المحكمة بتجاوز تقرير الخبراء الدوليين الذي رفضه المؤتمر الوطنى لصلاحيته في تحديد حدود تلك المناطق.
بعيد صدور القرار تباينت الرؤى واختلفت بين الطرفين «المؤتمر الوطنى والحركة الشعبية» فالوطنى من لاهاي أعلن مسؤول الملف السفير الدرديري محمد أحمد، أن القرار يعد انتصارا لجهودهم في رفض وتفنيد تقرير لجنة الخبراء الدوليين التى تجاوزت تفويضها، وفي المقابل فان الحركة الشعبية التى استلم الدكتور رياك مشار نص قرار قضاة المحكمة والابتسامة تعلو وجهه، أعلنت التزامها بتنفيذ القرار ورأى أنه ليس هناك فائز وخاسر منه، طالما أن الوضع الديمغرافي لسكان المنطقة لم يتأثر به.
«الصحافة» في قراءتها الأولية لحيثيات قرار قضاة محكمة لاهاي حول أبيي، استنطقت عددا من الخبراء والمهتمين بالمنطقة حول القرار ورؤيتهم الفنية له بعد تقليبه من كافة جوانبه، فاللواء عبد الرحمن أرباب، معتمد أبيي السابق، قال ان الشريكين ذهبا لهذه المحكمة باختيارهما والتزما بتنفيذ ما يصدر منها مسبقاً، وأن السؤال الرئيسي للمحكمة فرضه الشريكان وهو «تحديد ما اذا كان تقرير الخبراء تجاوز صلاحيته أم لا»، وبعد النطق بالحكم ظهرت بعض الملاحظات، حيث أن كثيرا من قرارات لجنة الخبراء كانت غير صحيحة وجزء منها صحيح وفقاً لافادة القضاة، وأن المحكمة وفقاً لتكليف حددت منطقة بعينها باعتبارها منطقة أبيي وفقا لما نص بروتوكول أبيي «أبيي منطقة مشيخات دينكا نقوك التسع» ويمكن أن نسمي هذه المنطقة تحديداً «أبيي لاهاي» لأنه كانت هناك منطقة تم تحديدها بواسطة تقرير الخبراء يمكن أن نسميها «أبيي الخبراء» وهي التى رفضها المؤتمر الوطني، وهناك منطقة أخري حددها الشريكان «الوطنى والشعبية» ابان توقيع خارطة طريق أبيي، وسميت منطقة أبيي امس بواسطة قضاة لاهاي هى منطقة اقل في المساحة من المنطقة التي حددها تقرير الخبراء والمنطقة التى حددها الشريكان، فاستبعدت منطقة هجليج «البترول» منها ولكن حقل «دفرة» وقع في حدود أبيي الجديدة، وقال عبد الرحمن انه ليس هناك اشكالية في التعايش الذي كان سابقاً لأن القرار لا يمنع التحرك والعلاقات بين القبيلتين، ولكنه لم يستبعد حدوث بعض التوترات من المتفلتين عند ترسيم المساحين للحدود وفقاً لقرار لاهاي خاصة اذا تضرر أي طرف في القرار من تبعية منطقة من الشمال الى الجنوب او العكس، واضاف «نتوقع بعض التوترات لكن الجهات الرسمية مجتهدة على أن لا يكون هناك توتر، ولكن الباب سيكون مفتوحاً أمام هذه التوترات».
ولكن بعكس ما ذهب اللواء عبد الرحمن، قال الدكتور عبد الباسط سعيد الخبير المتخصص في شئون المنطقة لـ«الصحافة» ، ان المحكمة أقرت بأن تقرير الخبراء لم يتجاوز تفويضه الا في مناطق قليلة جداً في الجزء الشمالي والشرقي، فالمحكمة اعتمدت الحد الشمالي لتقرير الخبراء في حدود أبيي، وأعادت فقط ترسيم جزئي في الحدود الشرقية والغربية، واصفاً اعتماد الحد الشمالي في تقرير الخبراء بأنه كارثة كبري، مشيرا الى أنه لأول مرة يتم عبر هذا القرار تحديد حدود منطقة الخلاف في أبيي، والآن هناك «13» ألف كيلو متر هي المنطقة التى يتم فيها اجراء الاستفتاء في المشورة الشعبية بالانضمام جنوباً أو شمالا 2011م ، وأضاف بهذا القرار سيتم ترسيم منطقة الميرم وهجليج، وأن منطقة الرقبة الزرقاء الثرية بالموارد ستقع جنوباً داخل أبيي، بالتالي حسب رأيه فان المسيرية مشكلتهم المحلية لم تحل بعد، لأن حرمان المسيرية من منطقة الرقبة الزرقاء يعني حرمانهم من الحياة، وقال سعيد ان المحكمة كذلك لم تقل حتى الآن أن للعرب حق الاستقرار والتملك وتتحدث فقط عن حقهم في الرعي، مشيراً الى التناقض الذي يصنفهم بأنهم مواطنون في جنوب كردفان، وكذلك بحر العرب دون أن يشير الى حقهم في التملك والاستقرار في المنطقة.
ومن جهتة قال الدكتور أبينقو، مدير معهد السلام والتنمية بجامعة جوبا لـ«الصحافة» ، انه بموجب هذا القرار سيكون هناك اعادة ترسيم للحدود في الجانب الشرقي والغربي، لكن لن يكون هناك تغيير ديمغرافي في خارطة المنطقة، مشيراً الي أن القرار كان مرضياً للطرفين، ولا يعد فيه خاسر فالكل في هذا القرار كسبان، مستبعداً أن يكون لقرار لاهاي أي تأثيرات سلبية في المنطقة بل قال انه سيحدث تأثيرا ايجابياً في الاستقرار والأمن، وأضاف ان القرار ملزم للطرفين، وأي رفض له من أي طرف سيجعله يكسب عداء العالم وسخطه، داعياً المجتمع المحلى بأبيي أن يقبل بالواقع وتنفيذ القرار بصورة واقعية، وقال لا نستبعد أن يكون هناك من لا يرضيهم القرار، ولكن هذا القرار بحسب ابينقو انه «أعطي كل طرف حقه في الارض والثروة».
وفي ذات الاتجاه الذي يصف القرار بأنه شكل حالة من الرضا العام للطرفين المتنازعين، ذهب الدكتور يوسف بخيت خبير الحكم المحلي بالأمم المتحدة لـ«الصحافة» بقوله «ان القرار يعد مكسباً للسودان وليس لأي طرف، لأنه أوقف حربا كان يتوقع حدوثها فالقرار أنهي هذه المشاكل، وقال انه مكسب كذلك للشريكين وللقبائل في المنطقة لأن القرار لطف بهم عندما جاء بهذا الشكل المتوازن عندما صب في صالح السودان ويجب أن يؤخذ بهذا الشكل، داعياً الي الجدية في تنفيذ القرار الذي فضل ان يقوم به المسيرية والدينكا والادارة المحلية هناك وأن يبعد في تنفيذه التدخل الدولي والمجتمع الدولي الذي سيعقد الوضع اذا تدخل في التنفيذ، داعياً المواطنين الى أن يشكلوا عنصر تنفيذ للقرار، واضاف يوسف برغم من ان الذهاب بالقضية للاهاي أحدث نوعاً من الانقسام في صفوف المجتمع المحلي هناك، الا أن القرار بهذا الشكل أحدث توحيدا لهذه الأطراف لذا يجب التراضي على العيش المشترك في المنطقة، واصفا القرار بأنه موفق لأن المحكمة فندت تقرير الخبراء وبينت الفجوات التى احتواها وحددت الأخطاء ووافقت على الأجزاء الصحيحة فيه، ودرست كل المسائل المتعلقة بالمنطقة حتى خرجت بهذا القرار الذي وصفه بالمتوازن».
وفي ذات الاتجاه قال السيد حسين ابكر صالح، مفتش الحكومات المحلية السابق بالمنطقة، لـ«الصحافة»، ان قرار لجنة التحكيم كان موفقا لحد كبير وأحدث نوعا من الرضا بين الجانبين وراعي التداخل القبلي في المنطقة منذ القدم والذي توجه النظار بابو نمر ودينق مجوك في التعايش السلمي في المنطقة، مشيراً الى أن التزام الطرفين المسبق بقبول القرار وتنفيذه كان شيئاً ايجابياً، وقال ان القضاة درسوا من واقع هذا القرار كل الاشياء المتعلقة بالمنطقة ، لذا جاء القرار فيه كثير من الحكمة، وقال الـ«16» ألف كيلو متر التى ضمها تقرير الخبراء الدوليين اعتبرها قضاة لاهاي خارج اختصاص تفويض الخبراء فاعادت ترسيمها من جديد، حيث أعطت الدينكا نقوك حول «6» آلاف كيلو متر فقط فيما أعطت المسيرية حوالى «10» آلاف كيلو متر من تلك المساحة، واصفاً ذلك بأنه شئ من الحكمة لتفادي كثير من المشاكل. وقال ان قضاة لاهاي لو حكموا بتبعية المنطقة بنسبة مائة بالمائة شمالاً أو جنوباً كان سيخلق نوعاً من التوتر في النفوس سيقود لمزيد من الاحتراب والتنازع، ولكن الشكل الذي جاء به القرار كان مرضياً للطرفين في المنطقة، لذا سيكون لديه قبول من جميع الاطرف مستبعدا بهذا ان يكون هناك أي نزاع مستقبلا بالمنطقة.
خالد البلوله ازيرق :الصحافة