تلك أزمة كبيرة.. أزمة انعدام الثقة في حياد الرموز القومية في بلادنا.. ولا شك أن هناك عشرات الشخصيات القومية التي كان يجب إنصافا أن تحظى باحترام تأريخي مستحق ودور وطني يؤهلهم لموقف الحياد ولكن هل هذا محقق..؟
الإجابة في الغالب لا، فقد خربت ظنون وارتيابات الساحة السياسية مع الأسف تلك الثقة في حيادية رموزنا القومية ونالت الظنون من أسوار الحصن الوطني المفترض أن يظل بعيدا عن غبار الأزمة وخارج تصنيف الـ(مع والضد)..
ربما كان التمسك بموقف الحياد الكامل في بعض المنعطفات والمحكات الوطنية في وقت من الأوقات صعبا على الكثيرين لكن كلمة واحدة منهم تصدر بنوايا وطنية خالصة لكنها تخدم موقف طرف أو آخر تكفي لأن تؤخذ كدليل على أن فلانا أو علانا فقد حياده وتعاطف مع الطرف المحدد ضد الآخرين.
حدة الاستقطاب والتصنيف التي مرت بها الساحة السياسية بلغت درجات بعيدة بحيث أن الحكم على مواقف الناس وصل إلى مرحلة غريبة من التصنيف هي أن الموجودين بالداخل جميعهم إن لم يوصفوا بأنهم (تبع المؤتمر الوطني) فإنهم على كل حال بنظر البعض متعاطفون أو مداهنون أو متساهلون بالتعاطف مع المؤتمر الوطني حتى ولو كانوا قيادات في الأحزاب المعارضة تجدهم يتواجهون بسؤال غريب (طيب المقعدكم هناك شنو؟)..!
وهذه النظرة تعني أن من بالداخل (مع) ومن بالخارج (ضد)..!!
كتبت من قبل مقالا انتقدت فيه الجبهة الثورية فأرسل لي أحدهم رسالة لائمة ولئيمة على الإيميل يقول فيها (أستغرب فيك يا جمال، كيف تكون مقيما خارج السودان وتكتب متعاطفا مع مليشيات المؤتمر الوطني ويقصد طبعا القوات المسلحة حسب وصفه لها)..!!
ومع الأسف فإن الكثير من الزملاء الصحفيين المقيمين حاليا خارج السودان خضعوا لهذه الحالة واستسلموا لها تماما فقد كانوا قبل مغادرتهم السودان متوازنين جدا في مواقفهم يقولون كلمة الحق بشكل موضوعي سواء جاءت مع أو ضد ويتعاملون مع أجهزة الإعلام الحكومية ولهم علاقات كبيرة مع الوزراء والمسؤولين لدرجة تجعلك تشعر بأنهم أقرب إلى الحكومة، يستضيفهم التفزيون القومي ويتحدثون في السياسة وأخبار الصحف على الهواء مباشرة ولا تكاد تسمع منهم بنظر الحكومة كلمة (ما ياها).. لكنهم بعد مغادرتهم مطار الخرطوم خلعوا ثيابهم تلك وارتدوا رداء جديدا و(هاك يا شتائم) للتلفزيون والصحف والصحفيين والمؤتمر الوطني وقوى المعارضة بالداخل و(هاك يا غزل) للجبهة الثورية والمناضلين الذين يحملون (إستيكة) سوداء لمسح كل سودان ما بعد 89 بما فيه ومن فيه وكتابة كلمة (حلم) وإرسالها ليس لمصطفى الأغا على (الإ م بي سي) بل إرسالها ربما (للجن الأحمر) خلف الطائرة الماليزية..!!!
وحين تطالع مقالاتهم ومداخلاتهم في الفيسبوك والتويتر تستعجب والله.. والمشكلة أننا نعرفهم جدا جدا.
أزمة الحياد يجب قبلها أن نفكر في أزمة الموضوعية والصدق مع المواقف وأزمة الالتزام بمواقف مبدئية لا تتغير حسب حالة الطقس وإرهاب التصنيف السياسي للناس والأشياء بواسطة أصوات الخارج..!
غدا نواصل لنتفاكر سويا حول قضية ترشيح محايدين يصلحون للاختيار كطرف محايد ومشرف على الحوار.
[/JUSTIFY] جنة الشوك – صحيفة اليوم التالي