(1)
هناك أوجه شبه كثيرة بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والزعيم الليبي الراحل معمر القذافي: كلاهما جاء إلى الحكم في سن مبكرة نسبياً؛ كلاهما جنح للمغامرة، كلاهما مال إلى تحدي الدول الغربية المهيمنة، كلاهما كان مهووساً بإعادة مجد غابر لأمة أصابها الهوان بعد عزة (خارجية)، وكلاهما استفاد من أموال النفط واستغلها سياسياً.
(2)
كلا الرجلين انتهج نهجاً دكتاتورياً لم يكن يتورع فيه عن كبيرة. ولكن لعل ما يربط الرجلين هو عدم تقبل الإهانة الشخصية أو تحدي سلطانهما مباشرة. ولهذا كان القذافي يتتبع خصومه وكل من يتجرأ على انتقاده في أي مكان في العالم. وكم من معارض ليبي قتل أو خطف في عواصم أجنبية. وقد فجر القذافي طائرة البان أميريكان فوق اسكوتلندا عام 1988 انتقاماً لقصف أمريكا لمنزله قبل ذلك بعامين، وخطط لاغتيال ولي عهد السعودية لأنه انتقده على العلن أمام القمة العربية في شرم الشيخ عام 2003.
(3)
تعرض خصوم الرئيس بوتين أيضاً (من نجا منهم من السجن والمحاكمة والتغريب) لـ حوادث لا حصر لها، حتى كاد يصدق فيهم قول المتنبي في مدح كافور بعد أن تعرض أحد معارضيه كذلك لمصير غامض: لو الفلك الدوار أبغضت سعيه/ لعوقه شيء عن الدوران! فقد بلغ عدد الصحافيين الذين تعرضوا للاغتيال منذ تولى بوتين الحكم عام 1999 أكثر من مائة صحافي، ومات مثل ذلك العدد في ظروف الحرب. وكانت أشهر الجرائم في هذا المجال اغتيال الصحافي اليكساندر ليفتنينكو في لندن بالسم عام 2006، واغتيال الصحافية أنا بوليتكوفسكايا (المشهورة بتغطيتها الجريئة لحرب الشيشان) في مسكنها في موسكو في نفس العام.
(4)
في سنوات حكمه الأولى ركز بوتين على مشاكل روسيا الداخلية، خاصة حرب الشيشان والاقتصاد المنهار وقبضته المهتزة على السلطة. ولهذا السبب فإنه انساق كالحمل الوديع خلف السياسات الأمريكية والغربية. وقد شمل هذا التواطؤ في غزو العراق عام 2003 وكذلك ضرب ليبيا عام 2011. ولكنه بعد أن استقر له الأمر، خاصة بعد تعزيز وضعه الداخلي وتحسن الاقتصاد الروسي بسبب ارتفاع أسعار النفط والغاز، أخذ يظهر بعض الممانعة الخجولة، خاصة بعد شعوره والصين بأنه غرر بهما في الشأن الليبي.
(5)
بعد عودته للرئاسة العام الماضي (بعد حيلة لم يسبقه إليها أحد من العالمين، حيث استخدم أحد مساعديه في مهمة محلل يسمح له بالعودة إلى الرئاسة بعد أن طلقها صورياً)، أصبح بوتين أكثر تشدداً واعتداداً بنفسه. وقد أصبحت سوريا أول نقطة تحدي واختبار لقدرته على تحجيم الهيمنة الغربية، وأولى معارك حربه الباردة الجديدة.
(6)
بغض النظر عن أن بوتين اختار في سوريا قضية خاسرة ومعسكراً ضرره أكثر من نفعه، فإنه وجد فيها فرصة لاتخاذ موقف. وقد استفاد إلى حد ما من أن الغرب لا يحفل كثيراً بمآلات الأمر في سوريا، مما ترك له الحبل على الغارب، ولو إلى حين. ويبدو أن وهم النجاح في سوريا، وتراخي الغرب في التصدي لتعنته، قد زين لبوتين أنه يمكن أن يوسع عملياته إلى مناطق أخرى.
ومن هنا قد ينظر التاريخ في المستقبل إلى سوريا على أنها كارثة عهد بوتين وبداية النهاية لهذا العهد.
(7)
في هذا المجال، قد يكون الشبيه الأقرب لبوتين هو صدام حسين، الذي تخيل أن دعم الغرب له في حربه مع إيران يعطيه الحق في تمديد مغامراته إلى مناطق أخرى، مثل الكويت، فكان ذاك خطأه القاتل.
فالكويت ليست إيران، كما أن أوروبا ليست سوريا. وكما اكتشف صدام كذلك، فإنه حين يجد الجد، فإن مصادر القوة قد تتحول بسرعة إلى مصادر ضعف. فقد يتحول سلاح النفط و سلاح الغاز′ إلى أداة لخنق الدولة كما خنق العراق من قبل.
(8)
مشكلة بوتين الأكبر، مثل مشكلة صاحبيه، هي في داخل بلده. فكل الصحفيين الذين قتل هم روس، وكذلك المعارضين الذين سجن وشرد، والبلاد التي دمر.
وعليه فإن بوتين بنى مجده (إن صح التعبير) على جماجم الشيشان الذين دمر بلادهم وقتلهم وشردهم، فأرضى ذلك كثير من الروس الذين كانوا يعيشون حالة من الإحباط بعد زوال امبراطوريتهم السوفيتية وانهيار اقتصادهم وتضعضع كيانهم السياسي، فوجدوا في هزيمة الشيشان نصراً أعوزهم في كل ميدان آخر.
(9)
ليس بوتين أول طاغية استخف قومه فأطاعوه في الشر. فقبل ذلك رأى الألمان في هتلر منقذاً، وتعاقب على دول العالم وشعوبه.
ومشكلة مثل هذه الطائفة من القادة أنها تورد قومها دار البوار لأنها تجهل النقطة التي يجب أن تتوقف عندها. فلو أن هتلر توقف عند ضم النمسا وابتلاع تشيكوسلوفاكيا، ولم يتمدد لمهاجمة بولندا، لربما تجنب الحرب التي دمرت بلاده. ويمكن أن يقال مثل ذلك عن ميلوسوفيتش وكوسوفو، وصدام والكويت، وبشار الأسد واغتيال الحريري.
(10)
معظم هؤلاء الزعماء يشتركون في مشكلة شخصية، يمكن تلخيصها بأنها مشكلة الرجل الصغير في المنصب الكبير، كما يظهر من الانشغال بتصفية الحسابات الشخصية، والاستجابة للاستفزاز.
وقد يحفظ التاريخ للعرب أنهم ساهموا في إسقاط بوتين، حيث أن الإعلام العربي ركز بكثافة على ما وصفه بهزيمة بوتين في أوكرانيا بعد سقوط الحكومة الموالية، وأكثر المقارنة بين ما وصفه بموقف روسيا القوي في سوريا والضعيف المتخاذل في الدولة الجارة. ويبدو أن الرجل يقرأ الصحف العربية ويشاهد قناة الجزيرة، فسقط في المصيدة.
[/JUSTIFY]
د/ عبد الوهاب الأفندي
صحيفة القدس العربي
[email]awahab40@hotmail.com[/email]