ظل شاعرنا الكبير محمد مفتاح الفيتوري المولود في مدينة الجنينة عام 1930م، لا يحمل جواز سفر بوصفه وثيقة تؤكد سودانيته الصميمة، ومنذ ما يقارب الأربعين عاماً كان يتنقل بجواز سفر دبلوماسي ليبي منحه له العقيد معمر القذافي، عندما اختلف الشاعر الكبير مع نظام مايو وخرج من البلاد بلا عودة وسحب منه جوازه السوداني.
وتلك قصة طويلة لا نود الخوض فيها، أو في علاقته وانتمائه للدولة الليبية وظروف تلك الآصرة التي تمتد لعقود غائرة في الهزيع الأخير من القرن التاسع عشر الميلادي، عندما كان هناك الفيتوري الكبير الجد، المخطوف من دار مساليت في غرب دارفور ليعيش، في أراضي زليتن التابعة لولاية طرابلس بالمملكة الليبية في ذلك الأوان.
وقررت وزارة الخارجية بعد طول ترجٍ وانتظار وسنوات عجاف، منح الشاعر الكبير جوازاً دبلوماسياً سودانياً، وهو حبيس الفراش يقاسي المرض العضال وخريف العمر القاسي في العاصمة المغربية الرباط، كما قررت الوزارة أيضاً العمل على إكمال إجراءات قدومه وعودته للبلاد.. وهو تطلع وتمنٍ ينضح في وجهه ويشرق في جبينه ويتنزى في كلماته القليلات الحبيسات بفعل السقم.
بهذا العمل الجليل للوزارة الموقرة.. يُرد للفيتوري اعتباره فهو رمز ثقافي وأدبي كبير، وبعض دينه، فقد حمل معه السودان في داخله أينما حل ورحل، فمن الناحية الإجرائية تعاد له هويته التي لا يمكن أن تقاس بدفتر من أوراق يسمى جوازاً، فهو لم يفارق وطنه على الإطلاق، فقد ظل السودان مشتعلاً في قلبه ودمائه ويجري في شرايينه وتلسع شمسه خلاياه الدافقة بالحنين.. ويشعر كلما زار السودان أو اغترب عنه أنه موجود بين ثنايا طينه وجروفه ورماله ووديانه ونيله وسحابه، يغازل العنادل في غصونها، والتقابات المضيئة في ليالي الإخبات والدعاء والضراعات.. ويجري وراء الفراشات الملونة في السهوب العريضة.. ويستنشق عبير الأمكنة والأزمنة في ممرات التاريخ العتيقة، وقلبه يدق مع إيقاع شجي تصنعه حوافر الخيل وإخفاف الإبل في بوادي السودان وبنادره.
وقاتل الله السياسة التي حرمت الفيتوري من مجرد وثيقة سفر تثبت انتماءه، وقد عاش يحمل هذا الجرح في فؤاده، ففي لحظات العسرة انتظر وقتاً طويلاً وهو يعاني من المرض، لمجرد جواز سوداني عادي يخضر به قلبه العليل، بعد أن سحبت ليبيا الجديدة جوازه الدبلوماسي الليبي السابق.
كل من زاره في مرقده مريضاً في داره بالرباط، يبصر الظمأ في عينيه والحنين الذي يشرب من ضوء اشتياقاته الكبيرة، كأن صوته ينبع من كل خلجة فيه ويخرج من مسامه، ويريد لروحه أن ترتاح عند عتبات الشمس المتمهلة في بلده.
وقاتل الله السياسة التي جعلت هذا الصوت الشعري الأقوى بين الأصوات العربية والمتربع على عرش الشعر بلا منازع في كل مهرجاناته وملتقياته وأسواق عكاظه، ينكفئ على نفسه، يبكي وحده في صمت، وهو الذي جعل المنابر تشتعل، وأوقد في إفريقيا كلها أناشيد الحرية وأحزانها وتغنى ببطولاتها وأمجادها ومأساتها.. حتى أن شاعر العراق الكبير عبد الرزاق عبد الواحد وصف الفيتوري وهو يعتلي المنابر بقوله «إنه غول إفريقي مهيب».
ملمح السياسة وبعدها الثالث يتبدى في قضية الفيتوري، فقد فرقت السياسة وجوده وقلبه وانتماءاته، ما بين الإسكندرية التي تربى فيها طفلاً مع محيي الدين فارس والقاهرة التي درس فيها والخرطوم التي احتضنها في قلبه واحتضنته شاباً يافعاً وصحافياً وشاعراً وأشهرته للدنيا منذ خمسينيات القرن الماضي، وبيروت التي سكب فيها نضارة عمره وإحساسه الشعري وكلماته المذهبة من خيوط الشعاع، وطرابلس التي أعطته ورقة العبور والمرور كما فعلت مع جده وأبيه، والرباط التي آوته بين حناياها بلا أوراق ثبوتية ووطن ينجذب إليه.
وزعت السياسة قلب هذا الرجل.. خانته قواه وجسده.. ولم يخنه قلبه.. تاهت كل بوصلات الدنيا، لكن بوصلة قلبه كان لها اتجاه واحد.. هو السودان!!
شيء يليق بالرجل.. أن يرى وطنه اليوم.. كأنه سيرى السلطان تاج الدين بجانبه «جبل يترجل مزهواً من فوق جبل».. يغني للشمس ويوسد رأسه التراب المقدس.. ويسمع أغاني إفريقيا وطبولها، أليس هو القائل:
وَسِّدْ الآنَ رَأسَكَ.. فَوْقَ التُّرَابِ المقدَّس
وَاركَعْ طويلاً لَدَى حَافَةِ النَّهْرِ
ثَمَّةَ من سَكَنَتْ رُوحُهُ شَجَرَ النِّيلِ
أَوْ دَخَلتْ في الدُّجَى الأَبنوسيّ
أَوْ خَبَّأَتْ ذَاتَها في نُقُوشِ التَّضَارِيس
وسد الآن رأسك
غيم الحقيقة دَربُ ضيائك
رجعُ التَّرانيم نَبعُ بُكائك
يا جرس الصَّدفاتِ البعيدة
في حفلة النَّوْء
يشتاقك الحرس الواقفون
بأسيافهم وبيارقهم
فوق سور المدينة
والقبة المستديرة في ساحة الشَّمس
والغيمةُ الذَّهبيَّةُ
سابحة في الشِّتَاءِ الرمادي
والأفق الأرجواني والأرصفة
ورؤوس ملوك مرصعة بالأساطير
والشعر.. والعاصفة
[/JUSTIFY]
أما قبل – الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة