تاباها مملحة .. تكوسة يابسة ما تلقاها (٢-٢)
همّ (عثمان) بالذهاب إلى المطبخ حسب طلب زوجته (رقية)، وإحضار صينية الاكل ليتناول الغداء مع ابني عمه (النور) و(صالح) الذين حضرا لزيارته من الحلّة، ولكن قبل أن يصل (عثمان) للمطبخ سمع صوت طرقات عالية على الباب فتحول إليه وفتحه بانزعاج، حيث وجد مجموعة من الشباب يحملون (مختار) شقيق (رقية) بعد أن داهمته (خمة نفس) و(شحتافة) غاب على اثرها عن الوعي في دكانه القريب من منزل شقيقته.
تحول إهتمام الجميع وأولهم (رقية) من موضوع الغداء إلى حالة (مختار) الصحية، فقد انشغلوا بمحاولة انعاشه بـ (بخ الريحة) ورش الماء البارد على وجهه حتى فتح عينيه، ولكنه ظل يعاني من ألم في صدره ولازمه ضيق النفس، فأسرعوا به إلى المستشفى ..
انطلق (النور) و(صالح) مع البقية إلى المستشفى دون تردد، بعد أن نسيا أو تناسيا الجوع وخواء بطونهم التي لم يدخلها الزاد منذ (شاي الصباح) بـ (اللقيمات) اللذيذ الذي تناولوه في بيت قريبهم (عبد الرحمن)، قبل أن يغادروه متبطرين على عرضه عليهم تناول الافطار معه، وهاهما يجنيان ثمار ذلك (البطر) بجلوسهم (متفنين) على الأرض يعانون من (سوء التغذية)، أمام المستشفى مع (عثمان) وبقية أسرة نسابته، انتظارا لخبر يطمئنهم على (مختار) الذي أدخل إلي العناية المكثفة، ولكن شاءت المشيئة أن يسلم الروح بعد انتصاف الليل بقليل ..
عاد (الجايعان) إلى البيت في صحبة الجثمان مع البقية، بعد أن نسيا تماما موضوع (الأكل) وحلت على بطنيهما نوع من السكينة والمسكنة، والعذوف عن مباهج الحياة الزايلة وأولها (الأكل)، فكل الاحتياجات الدنيوية مؤجلة لحين اكرام الميت بدفنه .. انتهت مراسم الدفن قبيل شروق الشمس، فقد قررت أسرة (المرحوم) دفنه بعد صلاة الصبح.
تفرق المشيعين بعد الدفن فترافق (النور) و(صالح) مع (عثمان) في طريق العودة للبيت، ولكنه فجأة تحول عن الطريق بعد مغادرتهم للمقابر وهو يقول:
ما دام الله جابنا بي جاي .. حرّم تجو معاي النزور شيخ طريقتنا (محمد الحسن) .. خلوتو قريبة من هنا.
دخلوا على الشيخ في مجلسه فرحب بهم ودعاهم للجلوس وشرب الشاي معه، فاستيقظت البطون وتذكرت (جوعها) المزمن، فـ تراءت لهم خيالات البوخ المتصاعد من كبابي الشاي باللبن، والتي حتما ولابد من أن يكون في صحبتها شيء من لقيمات أو (أقلو) بسكويت .. ولكن خاب ظن البطون عندما دخل عليهم صبي يحمل صينية مليئة بكبابي الشاي الاحمر دار بها على الموجودين.
حاول (النور) أن يتهرب من شرب الشاي على الجوع فإعتذر للشيخ:
معليش أعفيني يا شيخنا أنا ما قاعد أشرب الشاي الأحمر .. بتعبني والله.
فما كان من الشيخ إلا أن قام بفتح (كورية) كان يضعها بجواره على الأرض، وسكب من محتواها على كباية الشاي ثم ناولها لـ (النور) قائلا:
أشربا يا المبروك ما بتسوي ليك شي .. أنا كبيت ليك فيها حبيبة من كورية الروب هيلي !!
ابتلع (النور) جقيمات (الشاي بالروب) ثم خرجوا من خلوة الشيخ بعد أن نالهم من روب (بركاته) جانب .. افترق ثلاثتهم أمام الخلوة فقد عاد (عثمان) لفراش عزاء شقيق زوجته في بيت أسرتها، بينما أعتذر (النور) و(صالح) عن مصاحبته ثم ودعاه وبطنيهما تتنطنان بـ (لحدي هنا وكفاية) !!
عندما طرق (الشقيقان) الباب على ابن عمتهم (عبد الرحمن) ودخلا عليه، كانت عقارب الساعة تشير إلى العاشرة والنصف صباحا .. دعاهم (عبد الرحمن) للجلوس معه هو وزوجته (سعدية) على صينية الفطور الموجودة أمامهما قائلا:
أولاد حلال صحي .. تعالوا علينا جاي يا دوب ختينا الصينية .. معليش يعني ده باقي ملاح فطور البارح الابيتو تاكلوهو معانا .. الظاهر عندكم فيهو نصيب.
سقط الاثنان على الطعام برأسيهما وقال صالح بفمه الممتلئ طعاما:
والله يا عبد الرحمن غايتو يا أنت فكي ولا حوّطتنا عشان ما ناكل غير أكلك ده !!
لم يتوقفا عن الأكل إلا بعد (لحس) آخر فتفوتة في الصحون .. بعد غسل أيديهما تمدد (النور) على السرير وحكى لـ (عبد الرحمن) تفاصيل الدراما التي عاشاها خلال الاربعة وعشرين ساعة الماضية، ولم تدخل لبطنيهما خلالها (لقمة)، هوّن عليهم (عبد الرحمن) ما قاسوه وذكرهم بحكمة (رزق زول ما بياكلو زول)، ولكن (صالح) هزّ رأسه ضاحكا وقال:
يا أخوي حالتنا دي بنطبق عليها المثل البقول .. تاباها مملحة تكوسة يابسة ما تلقاها !!
لطائف – صحيفة حكايات
munasalman2@yahoo.com